إبراهيم شقلاوي يكتب : القاعدة الروسية وتكتيكات عض الأصابع

إبراهيم شقلاوي يكتب : القاعدة الروسية وتكتيكات عض الأصابع
الحرب التي يشهدها السودان منذ 15 أبريل 2023 بعد محاولة مليشيا الدعم السريع السيطرة على الحكم بدعم إقليمي وبعض القوى السياسية، ابانت عن تحول البلاد إلى ساحة لتنافس القوى الكبرى على أمن الممرات البحرية . امام هذا الواقع ، يحاول السودان اختبار أوراقه السياسية والأمنية، للوصول للاستقرار واستعادة الامن وتحقيق قدر من النفوذ.
كشفت صحيفة وول ستريت جورنال عن عرض السودان على روسيا إنشاء أول قاعدة بحرية لها في أفريقيا، هذه الخطوة الاستراتيجية تمنح موسكو موطئ قدم دائم على البحر الأحمر، وتثير قلق في واشنطن.
المقترح بحسب مصادر بمنح روسيا حق استخدام القاعدة لمدة 25 عاماً، يشمل تمركز نحو 300 جندي وأربع سفن حربية، بينها سفن تعمل بالطاقة النووية، في ميناء بورتسودان أو منشأة بحرية أخرى، فيما يحصل السودان على أنظمة دفاع جوي متقدمة وصفقات سلاح بأسعار تفضيلية لتعزيز قدرات الجيش في مواجهة مليشيا الدعم السريع. ويتجاوز الاتفاق الجانب العسكري، ليمنح روسيا امتيازات اقتصادية في قطاع التعدين والطاقة.
وسط هذه التسريبات، خرج السفير الروسي لدي الخرطوم تشيرنوفول ليؤكد أن الوثيقة المتعلقة بالقاعدة “قديمة” وأن الإجراءات متوقفة بسبب الحرب في السودان، موضحاً أن الطلب المقدم في 2022 لم يحرز أي تقدم، وأنه بحاجة لتصديق رسمي قبل أي خطوة عملية. هذا النفي الرسمي، يكشف التوتر بين الطموحات العسكرية الروسية والحذر الدبلوماسي تجاه مصر والسعودية وواشنطن، ما يجعل الملف السوداني مسرحاً لتكتيكات عض الأصابع بين اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين.
في هذا السياق بدأ تحرك أميركي بشكل واضح، مع تصريحات وزير الخارجية، ماركو روبيو الذي أكدت أن الرئيس ترامب يتولى شخصياً ملف السودان، بعيداً عن المبعوثين. هذا يعكس إدراك واشنطن أن الوضع السوداني أصبح مهمآ، وأن أي تساهل في إدارة النفوذ الروسي أو الإماراتي قد يغير قواعد اللعبة في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
التسريب الإعلامي للملف الروسي في هذا التوقيت لم يكن بريئاً، حيث تشير الاتهامات إلى أن الإمارات التي تتعرض لضغوط دولية كبيرة بسبب دعمها للمليشيا ، تحاول تصوير الجيش السوداني كحليف لموسكو لإجبار واشنطن على إعادة تقييم مواقفها. إلا أن النتيجة كانت عكسية: دفعت واشنطن للتدخل المباشر بالتنسيق مع الرياض، لإغلاق أي نفوذ روسي محتمل، ما يعكس تحولاً نوعياً في إدارة الأزمة السودانية.
السودان بدأ مستفيدا من هذه التسريبات في استخدم ورقة روسيا كتكتيك للضغط على واشنطن لتعديل سياساتها، التي حاولت مساواة الجيش بالمليشيا وتجاهلت الدعم العسكري الإماراتي. الهدف تعزيز موقف الجيش وتثبيت سيطرته وتبني رؤيته المتعلقة بإنفاذ اتفاق جدة للترتيبات الأمنية الموقع في 11 مايو 2023 ، بما يضمن حسم الحرب سريعاً.
ظهور ملف القاعدة الروسية في هذا التوقيت جزءاً من معركة أوسع تُدار في الخفاء وتطفو على السطح كل حين . فالحرب التي بدأت بتمرد مسلح، سرعان ما تحولت إلى صراع إقليمي يتداخل فيه المال والسلاح والسياسة، وتتشابك فيه مصالح دول تخشى سقوط الخرطوم في يد مشروعٍ يعيد رسم الخرائط على حساب أمن البحر الأحمر والممرات المائية. وفي قلب هذا المشهد، بات الجيش السوداني يتعامل مع الحرب بوصفها حرباً وجودية.
ومن هنا يصبح فهم “تكتيكات عضّ الأصابع” ضرورياً. فالسودان يدرك أن الولايات المتحدة، لا تستطيع القبول بوجود قاعدة روسية على البحر الأحمر، وأن السعودية لن تسمح بفراغ استراتيجي تستثمره قوى أخرى تهدد استقرار المجال الحيوي لنفوذها. أما مصر، التي تتعامل مع البحر الأحمر باعتباره امتداداً لأمن قناة السويس، فترى في أي تموضع روسي على مقربة من مضيق باب المندب تهديداً مباشراً لمعادلتها الدفاعية.
بهذه الحسابات المعقدة، استثمر السودان ورقة موسكو، ليعيد تعريف موقعه في المعادلة، ويجبر واشنطن على الانتقال من سياسة “موازنة الأطراف” إلى سياسة “حسم الموقف”. وقد بدأ هذا التحول يظهر فعلاً في الأسابيع الأخيرة، حين بدأت الإدارة الأميركية تتعامل مباشرة مع الرياض والخرطوم، متجاوزة وساطت ابو ظبي التي استغلتها في دعم المليشيا.
أما الإمارات، التي بنت خلال السنوات الماضية شبكة نفوذ ممتدة من القرن الإفريقي إلى اليمن، فقد وجدت نفسها في أصعب لحظة منذ تأسيسها، بعد انكشاف دورها في الإبادة بدارفور، وتراجع رصيدها الدولي،
وازدياد الضغط السياسي والإعلامي عليها. التسريب الأخير الذي أرادت به ضرب الجيش السوداني عبر تصويره حليفاً لروسيا، انتهى إلى نتائج عكسية؛ إذ دفع واشنطن إلي التعامل مع الملف السوداني بحذر لا يمكن تركه للوكلاء.
وفي الوقت ذاته، تحاول موسكو أن تلعب على التوازنات بذكاء. فهي ترغب في موطئ قدم في البحر الأحمر ، لكنها تدرك أن أي خطوة غير محسوبة قد تصطدم بمصالح مصر والسعودية، وهما شريكان مهمّان في المنطقة. لذلك جاءت زيارة سيرغي شويغو
إلى القاهرة كرسالة تطمين، وكأن موسكو تقول: إن وجودنا المحتمل في السودان لن يكون موجهاً ضدكم. ومع ذلك ظلّت القاهرة غير مقتنعة تماماً، لأنها تعلم أن أي قاعدة روسية جنوب قناة السويس ستغير قواعد اللعبة على المدى الطويل.
يتكشف المشهد السوداني كطبقة معقّدة من الصراع تتداخل فيها رغبات إطالة الحرب مع شبكات الإمداد المتحركة وصفقات الظل التي تعيد تشكيل الخريطة كلما تبدّل المزاج الأميركي. وبرغم هذا التشابك تمكن الجيش من استعادة زمام المبادرة، ما جعله رقماً لا يمكن تجاوزه في أي صيغة مقبلة، فيما يزداد الضغط الدولي على المليشيا وتتسع في الخطاب الغربي مفردة الإبادة الجماعية كواقع لا يمكن إنكاره.
بحسب #وجه_الحقيقة ما بين ضغط موسكو، وحسابات واشنطن، وتوجس القاهرة، وإصرار الرياض على إغلاق الحرب، واستنفاد الإمارات لأوراقها، يجد السودان نفسه اليوم في قلب المرحلة الأكثر حساسية منذ عقود. مرحلة تُرسم فيها حدود النفوذ، وتُختبر
فيها إرادة الدول، ويقف عندها السودان كفاعل حقيقي يملك القدرة على تغيير وجه المنطقة من خلال استخدام اوراقه الرابحة، شرط أن يُحسن صانع القرار إدارة هذا التوازن الدقيق بين ضرورات الحرب ومتطلبات السيادة وشروط الشراكات الدولية.
دمتم بخير وعافية.
Shglawi55@gmail.com





