أسامة محمد عبد الله المغواري يكتب: التبيان في شرعية البرهان
أسامة محمد عبد الله المغواري يكتب: التبيان في شرعية البرهان
دراسة علمية شرعية تأصيلية
في الاستيلاء على السلطة وحكم العسكر
بالتبيان في شرعية البرهان
بين الطاعة والعصيان
إعداد الباحث: أسامة محمد عبد الله المغواري
مدخل جوهري:
بدايةً نقول إن هذا العنوان هو بحث علمي وشرعي يؤصِّل لقضية جوهرية معاصرة وبدرجة عالية من الأهمية وعلى رأس سلم أولويات أمور دين ودنيا العباد، وهو جزء من كتاب شامل وجزء من صفحاته التي تقارب الأربعمائة صفحة، والذي استغرق إعداده حتى الآن ما يقارب الأربعة أعوام و سيصدر قريباً ويرى النور بإذن الله وعونه وتوفيقه ومدده وحوله وقوته، ليكون بمثابة تبصير بالحق وتبيين للشرع لقضية تأتي على رأس سلم أولويات شؤون حياة العباد الدنيوية والأخروية وهي قضية من أصول الدين وثوابت العقيدة ألا وهي قضية الحكم والحاكمية، وما هو أمر السلطة والسلطان.
سيكون هذا البحث بمثابة إلقاء حجر في بركة ساكنة أو ربما تكون آسنة، وذلك تبييناً للحق ونصحاً للأمة وإبراءً للذمة أمام رب العالمين أني قد بلغت اللهم فاشهد، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، وأن ينفعني الله بذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث منها عملٌ ينتفع به.
فكلما أوردت في هذا الأمر من أدلة وشواهد وبراهين فهي منسوبة إلى كتاب الله أولاً وسنة نبيه الصحيحة ثانياً وفهم سلف الأمة الصالح ثالثاً ومن ثم مواقف وأقوال أئمة الأمة ومشايخ الإسلام والعلماء الأجلاء المتقدمين منهم والمعاصرين، والذين جميعهم ومن عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم وإلى أهل السنة والجماعة اليوم يصدرون من مشكاة واحدة هي مشكاة الكتاب والسنة فقط ولا غيرها البتة في كل صغيرة وكبيرة في أمور وشؤون أصول الدين وثوابت العقيدة والتي عليها مدار ومرتكز واعتصام العباد في كل ما يخص دينهم ودنياهم وآخرتهم وهذا من باب رد الأمر إلى الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الدين وهذا هو الإسلام ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، فمن عَلِمَ والتزَم فهو من الفائزين ومن علم وتنكَّب السبيل أو جهل فهو من الخاسرين.
هذا الجزء من الكتاب حتَّمت نشره ضرورة راهنة مرتبطة بالواقع المرير والشر المستطير والجهل المستحكم والفساد في الأرض والشيطان الذي يقود الناس، فاجتزأتُ هذا الجزء من الكتاب واستعجلت نشره قبل صدور الكتاب بكامله وتمامه قريباً بإذن الله وعونه ومدده وتوفيقه.
أعددت هذه الدراسة نصرة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرة لدين الإسلام الدين الحق ودرءاً للباطل والفساد في الأرض وصداً للفتنة والشرور وكذا محاربة الشيطان والفسوق والعصيان وإقراراً وتمكيناً للمعروف ورفضاً ومقاومةً للمنكر وتذكيراً للعباد بالتزام وفعل طاعة الله ورسوله وأولي الأمر ما لم يأمروا العباد بمعصية الله.
فهذه هي الدعوة إلى الله عز وجل والتبليغ عن رسوله صلى الله عليه وسلم فقد قال: (بلغوا عني ولو آية). وكذلك هذا البحث يعتبر دعوة إلى العلم الشرعي ورفع الجهل حتى يعبد العباد ربهم ويتقوه على علم وبصيرة وصواب فلا ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، يغيروا معصية الله إلى طاعته ويغيروا المنكر إلى المعروف ويغيروا البدعة إلى السنة، ومن ثم بعدها يغير الله ما بالعباد، فالباطل والفساد والفتنة والشرور والفسوق والعصيان والمنكر هذه كلها يقودها الشيطان وأولياؤه من الانس ويدعون اليها ويمكنون لها قاتل الله الشيطان وأولياءه، فالشيطان للانسان عدو مبين فيجب على الناس ان يتخذوه عدوا لأنه يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، فأغلب الناس اتبعوا ابليس إلا فريقا من المؤمنين ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة لكن الله يؤخرهم إلى أجل مسمى فمن كفر فعليه كفره ولا يزيده هذا عند الله إلا مقتاً وخساراً.
فإذا أراد العبد أن يعرف مقامه عند الله تعالى فلينظر هو في نفسه أين مقام الله عنده ومعرفته أولاً وتوحيده وعبادته وذكره وشكره والتزام طاعته وترك معصيته أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، بل الله يقبل القليل من العمل ويزيد مكافأته وأجره فالحسنة عند الله بعشر أمثالها والسيئة عنده بسيئة واحدة، واذا كان العبد يمشي إلى الله مشياً أتاه الله هرولةً وإذا تقرَّب العبد إلى الله شبراً تقرَّب الله إليه زراعاً وإذا تقرب العبد إلى الله زراعاً تقرب الله إليه باعاً واذا ذكر العبد الله في نفسه ذكره الله في نفسه، وإذا ذكر العبد الله في ملأ ذكره الله في ملء خير منه وهو الملأ الأعلى. فانظر يا عبد الله كم يساوي مقام وقدر الله عندك. فذلك هو مقامك عند الله بل مقامك أجل وأسمى من ذلك لأن الله ذو فضل عظيم، وعطاء كريم، فهو رب رحيم.
فلو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض ولأكلوا من فوق أرجلهم ومن تحتها، وما تعانيه الامة اليوم من الضنك والضيق والغلاء والمسغبة هو بسبب ما اكتسبت أيدي الناس وقد كثر الفساد في البر والبحر، ولا ولن ينصلح هذا الحال إلا بالعودة إلى الله ولا يظلم ربك أحداً بل الناس أنفسهم يظلمون، فالذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أؤلئك هم الخاسرون الذين خسروا انفسهم وأهليهم، فالناس اليوم أكثرهم يؤمنون بالباطل ويكفرون بنعمة الله وإن الله لمع المحسنين، فهذا وعد الله ولا يُخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ويطبع الله على قلوب الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم في ضلال مبين. فعلى العباد أن يكونوا إلى الله راغبين وبدينه مستمسكين فدين الاسلام تام وشامل وكامل فيه كل ما يُغني العباد عن حاجتهم لأي أمر وشأن آخر حتى يبحثوا عنه في أي مذهب آخر منحرف أو فكر وتفكير ضال، فهذه منسوبة إلى بشر ممن خلق الله عز وجل. ودين الاسلام منسوب إلى الله العليم الحكيم الواحد الأحد الفرد الصمد الخلاق ذي القوة المتين القدير على كل شئ وكل شئ عنده بمقدار، وهو يفعل ما يريد ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، فهل من بعد آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم شئ آخر يؤمن به العباد؟! ولا يفعل هذا إلا القوم الضالون المفسدون، فعلى العباد أن يقيموا وجوههم للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله وحينها سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ولات حين مناص.
أهمية وضرورة وجود الحاكم
نجد أن هذا الأمر على درجة من الأهمية والضرورة فلا دين ولا دنيا ولا آخرة من غير وجود الحاكم، ظل الله في الأرض، فباتفاق الأئمة والأمة بناءً على نصوص الشرع من الكتاب والسنة على ضرورة تنصيب الحاكم فهذا فرض وواجب على عامة المسلمين.
فقد أجمع الصحابة، رضوان الله عليهم، بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، على تنصيب الإمام قبل الاشتغال بدفنه صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دليل قاطع على أن وجود الحاكم من أهم الواجبات وأعظم المقاصد، وفراغ وخلو منصب الحاكم يعرّض أمر الدين والدنيا للضياع، فلا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمام ولا إمام إلا بسمع وطاعة لأن الشرع المطهر علَّق كثيراً من الأحكام والتكاليف على وجود الإمام الحاكم.
عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليأمروا أحدهم). فهذا في شأن الثلاثة وفي حال السفر، فكيف يكون الأمر في شأن الأمة وفي حالة الحضر؟.
حديث الرسول، صلى الله عليه وسلم هذا يدل على وجوب وجود الإمام الحاكم، أما الحكمة من ضرورة وجود الحاكم فنجد أن طبع بني آدم (البشر) – إلا الأنبياء والمرسلين منهم – يقوم على حب الانتصاف للنفس وعدم الإنصاف للآخرين، فلو لم يكن عليهم سلطان حاكم يسوس أمورهم ويدبر أحوالهم بإقامة العدل ورد الظلم لكانوا كالوحوش في الغابة يأكل القوي منهم الضعيف، والحاكم في البلد يُحكِم أمرها فيمنع المظالم وينصف المظلوم ويرد الحقوق إلى أهلها وينظم أحوال الناس في معاشهم ويحفظ ويحافظ على أمور دينهم ودنياهم.
قال الإمام أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: (لا يُصلِح الناسَ إلا أمير، برَّاً كان أو فاجراً، قالوا: يأ أمير المؤمنين هذا البر، فكيف بالفاجر؟ قال: إن الفاجر يُؤَمِّن الله عزَّ وجلَّ به السبل ويجاهد به العدو ويجيئ به الفيء وتقام به الحدود ويُحَجُّ به بيت الله الحرام ويعبد اللهَ فيه المسلمُ آمناً حتى يأتيه أجله). هذا الكلام من شرع الله تعالى فيجب الأخذ به والتسليم له.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : (لابد للمسلمين من حاكم، أتذهب حقوق الناس من غير انتصاف؟ وتكون الفتنة إذا لم يكن هناك حاكم يقوم بأمر الناس، وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، التعاون على البر والتقوى وجلب منافعهم والتناصر لدفع الإثم والعدوان ودفع ما يضرهم وهذا لا يكون لهم إلا بوجود الحاكم المطاع الذي يأمر بتلك المقاصد وينهى عن تلك المفاسد وهذا هو السلطان الحاكم). انتهى كلامه.
نجد أن دين الإسلام لم يفرِّط في شيء مما يحتاجه الناس في أمور الدين أو سياسة الدنيا، والحاكم يقوم بما يُصلِح الدنيا وفق ما جاء به الشرع المطهر، وسياستها بذلك ويُرجِع الأمر كله في سياسة الأمة إلى الله وحده.
قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ). الأنعام:57 وما الحاكم إلا ظل الله في الأرض، ووصف الحاكم هنا بأنه ظل الله في الأرض إعلامٌ للناس بأنه ليس كسائر الظلال فهو أرفعها وأجلها وأعظمها فائدة ونفعاً، فدين الله الإسلام هو خاتم الأديان وأتمها وأكملها جاء لتنظيم مصالح الناس في الدين والدنيا ولا يتم ذلك إلا بوجود الحاكم.
قال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ). الأنعام:38 وقال تعالى: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ). النحل: 89 فمن ظن أو زعم أن هذا الدين العظيم فرط أو قصر في بعض ما يحتاجه الناس في أمر الدين أو سياسة الدنيا فقد رد على الله عز وجل خبره فخاب وخسر خسراناً مبيناً، وإنه صلى الله عليه وسلم لم يحوِج أمته لأحد بعده البتة وفي هذا ما يكفي لكون هذا الدين صالح لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة.
ومن المقاصد الشرعية لوجود الحاكم إقامة العدل والعدالة فيجب على الحاكم الذي حكَّمه الله تعالى في عباده وملَّكه شيئاً من بلاده أن يجعل من العدل أصلاً يعتمد عليه وقاعدة يستند إليها ومنصة ينطلق منها لما في ذلك من مصالح العباد وعمارة البلاد.
فنعمة الله عز وجلّ على السلطان فوق كل نعمة لذا يجب أن يكون شكر السلطان لله أعظم من كل شُكر، وأفضل ما يشكر به السلطان لله تعالى هو إقامة العدل فيما حكَّمه الله فيه.
فقد اتفقت شرائع الأنبياء وآراء الحكماء وأقوال العقلاء أن العدل سبب لنمو البركات ومزيد الخيرات وأن الظلم والجور يمحق البركات ويقلل الخيرات والحكمة تقول: (العدل روح الحكم وحياة الرعية).
ولذلك لابد من المساواة بين الناس، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك من كانوا قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحدود على الوضيع ويتركون الشريف، وأيْم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها).
بالعدل قامت السماوات والأرض، والعدل مطلوب من كل أحد وفي كل حال وفي كل وقت. ومن هنا جاءت المكانة العلية والمنزلة الرفيعة التي يتمتع بها الحكام ومنحها لهم الشرع لتناسب علو قدرهم وسمو وظيفتهم ورفيع منصبهم وعظيم مسؤوليتهم.
إنما وضع منصب الحاكم ليكون خلفاً للنبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وذلك بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها وبهذا تستقيم أمور الدين وأحوال العباد والبلاد.
ولما أعطى الله ولي الأمر الحاكم تلك المنزلة الرفيعة وجد الناس أنفسهم مفطورين على تعظيمه واحترامه وهيبته ولا يخرج عن ذلك إلا إنسان لا يعرف الشرع وجاهل بالسنة.
نقل بدر الدين بن جُماعة الكناني عن الطرطوشي في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} البقرة 251 قال: (قيل في معناه: لو أن الله تعالى ما أقام السلطان في الأرض يدفع به القوي عن الضعيف وينصف به المظلوم عن الظالم لتواثب الناس بعضهم على بعض فلا ينتظم لهم حال ولا يستقر لهم قرار فتفسد الأرض ومن عليها، ولولا الحاكم لما استتب أمر العالم، فأمر الدين والدنيا مقصود ولا يحصل ذلك إلا بإمام موجود فلو لم يكن للأمة إمام قاهر لتعطلت الأحكام وانقعطت السبل ولما نُكِحت الأيامى ولا كُفِلت اليتامى). انتهى كلامه.
ولذا قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه: (ما يزِعُّ الإمام أكثر مما يزِعُّ القرآن). أي من يكف عن ارتكاب العظائم مخافة السلطان أكثر ممن تكفه مخافة القرآن والله تعالى.
قال المناوي في كتابه: (فيض القدير): (وهنا نجد أن العلة المانعة من الظلم والفساد والآثام هي إما عقل زاجر أو دين حاجز أو سلطان رادع وأبلغها رهبة السلطان وردعه فتكون رهبة السلطان أشد زجراً وأقوى ردعاً، فالإجماع المنعقد من الأمة على أن الناس لا يستقيم لهم أمر من أمور دينهم ودنياهم إلا بالحاكم فلولا الله ثم الحاكم لضاع الدين وفسدت الدنيا). انتهى كلامه.
يقول الفقيه أبو عبد الله القلعي الشافعي في كتابه (تهذيب الرياسة): (نظام أمر الدين والدنيا مقصود ولولا السلطان لكان الناس فوضى ولأكل بعضهم بعضاً).
ونخلص مما ذكر سابقا في شأن أهمية وضرورة وجود الحاكم ما أكده كل الذي قيل في هذا الشأن، إذن لا خلاف ولا جدال في أمر ضرورة وجود الحاكم.
شرعية الاستيلاء على السلطة
هذا الشأن أمر جوهري يدور حوله كثير من اللغط ويشتد حوله الخلاف والتنازع بين التأييد والرفض لأمر الاستيلاء على السلطة. وقد قصدنا تأصيل هذا الأمر برده برمته إلى الله ورسوله بمرجعية رد الخلاف والتنازع إلى الله ورسوله ولا مرجعية خلاف ذلك البتة مع ضرورة التزام العباد بحكم الله ورسوله وأن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضى الله ورسوله ويسلموا تسليماً، فمن أحسن من الله حكماً ومن أحسن من الله حديثاً ومن أحسن من الله قيلاً فمن رد حكم وقول الله عز وجل وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم فقد كفر وخرج عن الملة.
يقول العلماء من أهل السنة والجماعة إن من تولى على المسلمين أمرهم في حالة الاضطرار والضيق والضرورة بسيفه وسنانه فولايته نافذة بالنص والإجماع، حفظاً للدين والدولة، حفظاً للدين من الضياع والدولة من الانهيار، ووقايةً للناس من الشر والفساد والظلم وحفاظاً على مصالح البلاد والعباد.
وفي هذا قد أمر الأئمة والعلماء بطاعة الحاكم المتغلب على الحُكم والمستولي على السلطة بالقوة والقهر والسلاح، والأمر بطاعته هنا يستلزم النهي عن مخالفته والخروج عليه، وطاعته هنا فيما وافق فيه الحق ولم يأمر بمعصية الله.
قال عبد الله بن دينار رحمه الله: كتب عبد الله بن عمر: (إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الملك، أمير المؤمنين على سنة الله ورسوله فأنا وأبنائي على ذلك فإن كان خيراً رضينا وإن كان شرَّاً صبرنا). والمراد هنا بيعة بن عمر للمستولي على الحكم بسيفه وسنانه عبد الملك بن مروان بعد ما تم حسمه للنزاع بينه وبين عبد الله بن الزبير بقتل عبد الله بن الزبير في الحرم بعد أن لاذ به ابن الزبير.
وأيضاً قال الإمام أحمد رحمه الله: (السمع والطاعة للأئمة والحكام، البرّ والفاجر منهم، ومن اجتمع الناس عليه ورضوا به طوعاً ومن تغلب عليهم بالسيف والقهر والسنان حتى صار خليفة أصبح حاكماً ذا سلطان). انتهى كلام الإمام
وقال القاضي الماوردي رحمه الله: (وأما إمارة الاستيلاء بالقوة التي تتم عند الاضطرار والضرورة والضيق بأن يستولي الأمير بالقوة على بلادهم يتقلد إمارتها فيُفوَّض إليه تدبيرها وسياستها فيحفظ مصالح الناس والبلاد ويدرء الفساد والفتن عنهم). انتهى كلامه.
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: (وقدرة السلطان على سياسة الناس إما بطاعتهم له وإما بقهره لهم فمتى كان قادراً على سياستهم بطاعتهم له أو بقهره لهم فهو ذو سلطان ويطاع إذا أمر بطاعة الله). انتهى كلامه.
قال الحافظ بن حجر رحمه الله: (قد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب على الحكم بالسيف والقهر، والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه بما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء). انتهى كلامه.
قال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله: (وهنا لابد من الموازنة بين المصالح والمفاسد وتحقيق المقاصد، وهذه هي القاعدة الفقهية العامة التي يتأسس عليها النهي عن الخروج على الحكام فإن الإصرار على تطبيق شروط الإمامة في حالة التغلب على الحكم في حال الاضطرار والقهر والضيق ليس من سمات أهل السنة إنما هو من سمات الخوارج وإن الذي يظن أن طاعة الحاكم المتغلب بسيفه وسنانه غير واجبة فهذه داهية كبرى دهى بها الشيطان كثيراً من الناس كالخوارج فساروا يسعون في الأرض فساداً وفيما يفرق جماعة المسلمين ويوجب الاختلاف في الدين وما شرعه الكتاب المبين وترك نصرة رب العالمين). انتهى كلام العلامة عبد اللطيف.
إذن فالاستيلاء على السلطة بالقهر والسنان يكون تصرفاً شرعياً وفق الشريعة وقد أمرنا الله عز وجل بطاعة ولي الأمر والدعاء له وعدم سبه وعدم الخروج عليه ولا عصيانه فطاعته فرض عين وليست فرض كفاية، واجبة على كل مسلم ومسلمة وقربى إلى الرحمن، والخروج عليه وعصيانه والدعاء عليه محرم وقربى إلى الشيطان.
فيا أهل السودان عليكم بطاعة البرهان فهو حاكم شرعي بنص الشرع والشريعة ما لم يأمر بمعصية الله، فالله يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، أطيعوه ديانة لله ولرسوله وطاعة لهما فيما أمرا به من طاعة ولي الأمر تنالوا بذلك رضا الرحمن وتؤجروا، ولا تعصوه لأن معصيته من معصية الله تنالوا بها غضب الرحمن وتأثموا.
فيا أيها البرهان بناء على ما تقدم من وضع شرعي للحاكم المستولي على السلطة نقول لك لا تخلع هذا الحق من عنقك وهذا ثوب ألبسك الله إيَّاه، فالله يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء فتصريف الأمور كلها وتدبيرها بيد الله وحوله وقوته، فالحركة والسكون بيد الله، وما عليك إلا أن تُوكل أمرك كله لله فإليه يُرجع الأمر كله.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نصح سيدنا عثمان، رضي الله عنه قائلاً : (يا عثمان إنه لعل الله يقمصك قميصاً فإذا أرادوك على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني على الحوض).
وكذلك أوصى عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، سيدنا عثمان رضي الله عنه لما اجتمع عليه الخوارج يريدون خلعه فقال له: (يا عثمان إني لا أرى لك أن تخلع قميصاً قمصك الله فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم فخرجوا عليه فخلعوه أو قتلوه).
فرضي الله عن ابن عمر فكأنما يخاطب البرهان اليوم فذلك عثمان وهذا البرهان، فإننا اليوم نعاني مما حذَّر منه الرسول صلى الله عليه وسلم وكذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، في ذلك الزمان –فهذه بصيرة أهل الإيمان – والشاهد على ذلك المظاهرات المناوئة اليوم للرئيس البرهان والتي تطالب بعزله وخلعه وإقصائه بل تدعو وتحضَر لثورة جديدة عليه. ولا يسعنا هنا إلا رفع أكف الضراعة إلى الله أن يخلص السودان من هذه الفتنة فلا ملجأ من الله إلا إليه.
وعلى جميع أهل الإسلام في السودان كثرة الدعاء لله أن يجنب بلادنا الفتن ما ظهر منها وما بطن والدعاء بالصلاح والتوفيق لولي الأمر الحاكم.
وكذلك بذل قصارى جهدهم في تصحيح هذا المسلك المنحرف والمسار الخاطئ – المعصية وعدم الطاعة- وتعديل وجهته فيما فيه نفع البلاد والعباد والدين والدنيا والآخرة وهذا من أفضل الأعمال وأجل القربات لأنه يندفع به شر عظيم وتنطفئ به فتنة عمياء، ولأن الثورة على الحاكم تفتح باب الشر على الأمة كلها. وقال أحد الفقهاء: (الخروج على الأئمة هدمٌ لأركان الملة).
القاعدة الفقهية تقول: من تغلب على السلطة بقهره وسيفه وتولى الحكم واستتب له الأمر فهو إمام تجب بيعته وطاعته وتُحرم منازعته ومعصيته.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في كتابه (العقيدة): (ومن تغلب عليهم بالسيف والسنان حتى صار خليفة وسُمي أميراً فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت يوماً واحداً ولا يراه إماماً، بَرَّاً كان أو فاجراً).
والذي فعله عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، من مبايعة المتغلب على الحكم والمستولي على السلطة بسيفه وسنانه عبد الملك بن مروان، هو الذي عليه رأي الأئمة بل انعقد عليه الإجماع من كل الفقهاء. فورد في كتاب (الاعتصام)- للشاطبي- أن ابن عمر بايع عبد الملك بن مروان وقد أخذ المُلك بالسيف بعد أن قتل عبد الله بن الزبير، رضي الله عنه، بالحرم ولم يراعِ حرمة الحرم الشريف. فكتب له ابن عمر: (وأقر لك بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم).
وكذلك لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع عبد الله بن عمر حشمه وولده فقال: (إني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (يُنْصَب لكل غادرٍ لواء يوم القيامة). وإنا بايعنا هذا الرجل – يزيد المتغلب على الحكم بسيفه – على بيعة الله ورسوله وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه أو شارك في هذا الأمر إلا كانت هذه هي الفيصل بيني وبينه).
قال ابن العربي في كتابه (العواصم من القواصم): (إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كرهاً وأين يزيد من ابن عمر؟ ولكن ابن عمر رأى بدينه وعلمه وورعه التسليم لأمر الله والفرار من التعرض للفتنة لما يحدث فيها من ذهاب الأموال والأنفس وهذا أصل عظيم من أصول الدين – طاعة الحاكم المتغلب بسيفه – فتفهموه والزموه تُرشدوا إن شاء الله). انتهى كلامه.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمه الله: (وأهل العلم جميعاً من أهل السنة والجماعة متفقون على طاعة من تغلَّب عليهم بالقهر والسيف ويرون نفوذ أحكامه وصحة إمامته ولا يختلف في ذلك اثنان منهم ويرون كذلك المنع من الخروج عليه وتفريق الأمة وإن كان فاسقاً أو فاجراً ما لم يروا منه كفراً بواحاً. والأئمة الأربعة كلهم متفقون على ذلك بلا خلاف بينهم وغيرهم وأمثالهم ونظراؤهم). انتهى كلامه.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد بسيفه وسنانه له حكم الإمام في جميع الأشياء ولولا هذا ما استقامت الدنيا ولا انصلح أمر الدين). انتهى كلامه.
فهذا الذي قيل في أمر التغلب على الحكم والاستيلاء على السلطة بالسيف والسنان فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال الشرع والشريعة ومن يقول بغير ذلك لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها، إعراضاً عن الحق واتباعاً للهوى.
فهذا هو قول واتفاق الأئمة جميعهم وغيرهم كثير جداً في مشارق الأرض ومغاربها وكل هذا بلا خلاف بينهم البتة.
نسأل الله الكريم أن لا يحرمنا خير ما عنده من الإحسان، بسبب شر ما عندنا من التقصير والعصيان.
فدين الإسلام أيها البرهان يعرف أن الحكم لله وأن الأمر كله لله ولا يعرف الديمقراطية وابنتها الحزبية وربيبتها الانتخابات، ولا العلمانية كذلك فهذه عقائد كافرة وأفكار وضعية وتفكير شيطاني الحكم فيه للشعب وليس لله. ودين الاسلام يعرف ويلتزم بالشورى وأهل الحل والعقد واختيار القوي الأمين. أما خلاف ذلك فلا يمت لشرع الله بصلة، وضعه أهل الغرب وشياطينهم والذين لا دين لهم يرشدهم، ولا عقل لهم يلزمهم الصواب، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. ونعوذ بالله من الخذلان ومن سوء المنقلب والمصير.
ونجد أن الحكام لا يعطون أهل العلم والعلماء والدعاة حقهم من التقدير ومكانتهم من التبجيل المطلوب لهم شرعاً ويبتعدون عنهم أو ربما يخافون منهم أو يحْذَرُونهم وهذا خلاف ما يجب أن يكون من الشرع، يفترض أن يكون أهل العلم هم أقرب الناس إلى الحكام.
أخيراً أيها البرهان عليك أن تجعل من أهل العلم الشرعي والعلماء الصادقين المخلصين الناصحين، أن تجعل منهم أهل شورى عندك ومرجعاً لك وأهل فتوى، فهم يؤيدونك ويناصرونك ويبصّرونك، يدافعون عنك ويدعون لك لا عليك، ويثبِّتون أركان حكمك ويؤلفون قلوب الأمة إليك ويفعلون ذلك ديانة لله طاعة له ولرسوله وطمعاً فيما عند الله ورضوانه، فأشركهم في أمرك واشدد بهم أزرك. وكذا دخول أهل العلم والعلماء على الحاكم يُظهر للناس توقير وتعزير الحاكم فتقوى سلطته وتزيد هيبته عند الرعية ويمضي أمره ويهابه الأعداء وهذا هو عينه مقتضى مقاصد الشرع من تنصيب السلطان الحاكم.
قال الراغب الأصفهاني: (لا شيء أوجب على السلطان الحاكم من رعاية العلماء وفي حالة إخلال الحاكم بذلك يعم الجهل وينتشر الشر ويكثر الأشرار ويقع بين الناس التباغض والتنافر فيتولد بذلك البوار والعار والجور والظلم العام). انتهى كلامه.
إن العلماء الذين يعتنون بالدعاء للحكام ويهتمون بذلك ويأمرون الناس به هم أزهد الناس فيما عند الحاكم من الدنيا وهذا الأمر عندهم أمر رباني، أمر دين لا دنيا، فمكانة الحاكم في نصوص الشرع معلومة، أفلا يُعان بالدعاء؟، بلى.
فقد فهم ذلك الإمام أحمد بن حنبل جيداً فذهب إلى أن الدعاء لولي الأمر، وباستمرار، واجب عليه شرعاً وديناً فقال: (إني لأدعو الله للخليفة بالتسديد والتأييد والتوفيق في الليل والنهار باستمرار وأرى ذلك واجباً عليّ). انتهى كلامه.
وكذلك المأثور عن الفضيل بن عياض رحمه الله حيث قال: (لو كان لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في السلطان).
أنواع الخـــروج على الحاكم
- خروج فعلي:- وهو خروج الخارجين بسلاحهم وغيره لمقاتلة الحاكم.
- خروج قولي:- وهو أن يتكلم الإنسان في حق ولي الأمر الحاكم ويقدح فيه ويذمه ويسبه ويشهِّر به ويؤلِّب ويهيِّج الناس عليه بالتحريض والتعبئة والثورة ضده.
- خروج اعتقادي :- وهو أن يعتقد الإنسان في قرارة نفسه جواز الخروج على ولي الأمر الحاكم وإن لم يخرج عليه وهذا قد شارك الخوارج عقيدتهم لأن هذه هي عقيدة الخوارج.
كل خروج أيَّاً كان نوعه فهو منهيٌّ عنه ومحرَّم، فالخروج على الحاكم هو من عصيانه ونزع اليد من طاعته، وأمر الله ورسوله العباد بالسمع والطاعة والإذعان لولي الأمر الحاكم والصبر على جور وظلم الحكام حتى يلقوا النبي صلى الله عليه وسلم على الحوض. فيا أيها العبد المؤمن عليك بالاحتراز التام والحذر الشديد من الإتيان بأيِّ واحد من أنواع الخروج هذه، ناهيك عن جميعها.
المعاملة الشرعية للحاكم الكافر
يجوز شرعاً الخروج على ولي الأمر الحاكم في حالة واحدة فقط وهي أن يقع الحاكم في الكفر الصريح وهو الكفر البواح المعلن، ويكون عند الناس من الله في هذا الكفر برهان ودليل لا يقبل التأويل، هنا يجوز للناس الخروج عليه وإزالته، لكن حتى هذا الخروج المشروع لا يتم إلا بخمسة شروط هي:
- أن يرى الناس ويعلموا علماً يقينياً بأن الحاكم ارتكب الكفر وانطبق عليه ووقع فيه ولا يجوز الخروج عليه بسبب الفساد والظلم.
- أن يكون هذا الكفر بواحاً ومعلناً وصريحاً ولا يحتمل أيَّ تأويل.
- أن يكون هنالك دليل وبرهان قاطع على تكفير الحاكم تكفيراً عينياً في نفسه ويكون هذا البرهان والدليل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، لأنه ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه.
- قدرة الناس واستطاعتهم على إسقاط وإزالة هذا الحاكم الكافر وإذا لم يكن لديهم القدرة والقوة الكافية والاستعداد التام لإزالته سينقلب الأمر عليهم فيصير الضرر أكثر من الضرر على بقاء هذا الحاكم في السلطة.
- إيجاد البديل للحاكم الكافر الذي يُراد إزالته ويولوا بدلاً منه حاكماً مسلماً صالحاً فإذا لم يكن البديل جاهزاً وموجوداً ومناسباً سيكون هذا من باب أن يُلقي الناس بأيديهم إلى التهلكة وهذا منهي عنه شرعاً.
فالحاكم الكافر إذا خرجت عليه الرعية فسيقوم هو بصد هذا الخروج عليه وبشتى السبل والوسائل مهما كانت العواقب والنتائج من سفك للدماء وقتل للأنفس وغيرها الكثير من المفاسد والمضار، فالحاكم الكافر لا يراعي أي حرمة ولا يكون في قلبه رحمة ولا يرقب في الأمة إلَّاً ولا ذمة ولا يخاف الله فيهم بل يسومهم سوء العذاب لو ظفر بهم وانتصر عليهم بعكس الحاكم المسلم الذي مهما كان جبروتاً وطاغيةً ومتعسفاً فربما يراعي الحرمات ويكون عنده نصيب من الرَّحمات.
فالخروج على الحاكم الكافر برغم جوازه شرعاً إلا أنه لا يجوز إلا بتحقق تلك الشروط الخمسة، وذلك مراعاة لتقديم المصلحة العامة على المفسدة العامة، والشرع يأمر- بالتأكيد- بتقديم وترجيح المصالح على المفاسد والله لا يحب المفسدين ويحب الإصلاح والمصلحين، فهل من مدكر.
المعاملة الشرعية للحاكم المسلم
تحتم وجوب الطاعة وحرمة المعصية
نجد أن طاعة ولاة الأمر الحكام واجبة على كل الرعية وهي فرض عين على الجميع وكذلك حرمة معصيتهم والخروج عليهم والثورة ضدهم، فوجوب الطاعة وحرمة المعصية هذا من شرع الله كتاباً وسنة ويعتبر كذلك من أصول الدين وثوابت العقيدة ومن أهم التكاليف الربانية والنبوية فمن أراد الله به خيراً التزم بهذا التكليف أمراً ونهياً وهو في الآخرة من الفائزين ومن أراد الله به شراً خالف هذا التكليف أمراً ونهياً وهو في الآخرة من الخاسرين.
1– الدليــــــل من كتــــــــاب الله (القرآن الكريم):
الآية 59 من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. وفي هذه الآية الكريمة يأمرنا الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر، وذلك بفعل الأوامر واجتناب النواهي. وكل أوامر الله حسنة وعادلة لاشتمالها على مصالح العباد في الدارين ودفع مضارهما فكل أمر من الله فيه مصلحة وكل نهي منه فيه مفسدة، لأن الذي شرع ذلك هو الله السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية ويعلم بمصالح العباد ما لا يعلمون هم لأنفسهم.
أوامر الله فروض، فطاعة ولي الأمر فرض عين والخروج عليه حرام وكبيرة من الكبائر فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعة ولي الأمر والانقياد له والإذعان لأمره وذلك طاعة لله وتنفيذاً لأوامره والتزاماً بنهيه ورغبة فيما عنده من الثواب وحسن الجزاء وهذا مشروط بألَّا يأمر الحاكم بمعصية الله فإن أمر بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ثم أمر الله تعالى في هذه الآية برد كل ما تنازع الناس فيه إلى الله ورسوله أي إلى الكتاب والسنة فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية في الدين والدنيا لأن كتاب الله وسنة رسوله يقوم عليهما مدار وبناء الدين ولا يستقيم الإيمان إلا بهما فالرد إليهما شرط في الإيمان، فإن حُكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم، فالرد إلى الله جل وعلا يعني الرد إلى كتابه (القرآن الكريم) والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يعني الرد إلى شخصه في حياته والرد إلى سنته بعد مماته، ومن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله وله من الخير والثواب مقابل ذلك ما لا يعلمه إلا الله من النعيم المقيم، ومن يُعرض عن طاعة الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضير الله شيئاً وله العذاب الأليم.
ولابد أن تكون طاعة الله ورسوله في الظاهر والباطن والسر والعلن فكل من أطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوامره ونواهيه فقد أطاع الله، لكون الرسول، صلى الله عليه وسلم، لا يأمر ولا ينهى إلا بأمر الله ونهيه وشرعه ووحيه وتنزيله- فهو مبلغ عن ربه – وفي هذا دليل على عصمة الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأن الله أمر بطاعته مطلقاً فلولا أنه معصوم في كل ما يبلغ عن الله لا يأمرنا الله بطاعته مطلقاً فطاعة الله وطاعة رسوله واحدة، والأمر هنا جاء على العموم فإنه يدخل فيه كل أمر ونهي من الأقوال والأفعال والعقائد.
2- الأدلة من السنة المطهرة:
الرسول عليه الصلاة والسلام هو أعلم الناس بالله وأنصح الناس لعباد الله وأصدق الناس فيما قال وأفصح الناس في التعبير والبيان، فاجتمع في حقه من صفات القبول أربع صفات هي: العلم والنصح والصدق والبيان، فيجب علينا أن نقبل ونصدق ونلتزم ونعمل بكل ما أخبر به عن ربه، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}. النجم:3-4.
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. الممتحنة:7 وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}. الأحزاب: 21 وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). آل عمران: 31.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس). وقال الإمام مالك رحمه الله: (كلٌّ يُؤخذ من قوله ويُرد إلا صاحب هذا القبر). وأشار إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: (فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب).
وقال الحافظ بن كثير رحمه الله: (كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فهو كاذب في دعواه حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله واعتقاده).
قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). الأحزاب:36
فهذه الآية وما قبلها تؤكد وجوب انقياد المسلمين إلى ما قضاه الله أو قضاه رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأنه لا خيار لهم في خلاف ذلك البتة.
3- أحاديث نبوية مختارة:
- أخرج مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: (قلت: يا رسول الله، إنا كنا في شر، فجاء الله بالخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم. قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم. قلت: فهل وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: (تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع).
هذا الحديث من أوضح وأبلغ الأحاديث الكثيرة جداً التي جاءت في باب وجوب طاعة ولي الأمر الحاكم وحرمة الخروج عليه وعصيانه.
فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الأئمة الحكام بأنهم لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته وذلك غاية الضلال والفساد ونهاية الذيغ والعناد فهم لا يتبعون الهدي النبوي لا في أنفسهم ولا في أهليهم ولا في رعاياهم، ومع كل هذا الفعل الشنيع من هؤلاء الحكام برغم كل ذلك أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بطاعتهم، وعدم الخروج عليهم وعصيانهم ولا الثورة ضدهم ولا تأليب الناس عليهم – ما لم يأمروا بمعصية الله – حتى لو قام هذا الحاكم بضربك وأخذ مالك، فلا يحملك تصرف الحاكم هذا على ترك طاعته وعدم سماع أوامره، فإن هذا الجرم عليه يحاسب به يوم القيامة.
فهنا نقول إن قادك الشيطان واتبعت هوى النفس الأمارة بالسوء إلى عصيان ومخالفة هذا الأمر الحكيم والشرع المستقيم فلم تسمع ولم تطع للحاكم لحق بك الإثم المبين والجرم العظيم ووقعت في المحظور وبرأت من ذمة الله ورسوله، وبهذا العصيان تتعطل المصالح الدينية والدنيوية ويقع الشر والضرر على جميع الرعية فتتحقق بذلك المفسدة ثم يحصل غضب الله وينزل عقابه، فمن إجلال الله إجلال السلطان، عادلاً كان أو جائراً، فمن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً فالشيطان يمنِّيهم ويعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً لذا فقد أمرنا الله بمقاتلة أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً.
- حديث قدسي ذكره شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في كتابه (منهاج السنة)، وأخرجه ابن أبي شيبة في كتابه (المصنف) بسند صحيح وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا قال: (أنا الله مالك الملك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني فيهم جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني فيهم جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، ولكن توبوا إليّ أُعَطِّفُهم عليكم).
يقول الحسن البصري: (اعلم – عافاك الله – أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقم الله لا تُلاقى بالسيوف وإنما تُتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة والاستغفار والإنابة إلى الله والإقلاع عن الذنوب، إنَّ نِقَم الله متى لوقيت بالسيف كانت هي أقطع. فقد قيل للحجاج: إنك تفعل بأمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كيت وكيت: فقال: (نعم، إنما أنا نقمة من الله على أهل العراق لمَّا أحدثوا في دينهم ما أحدثوا، وتركوا من سنة نبيهم ما تركوا).
وقد سمع الحسن البصري رجلاً يدعو على الحجاج، فقال له: (لا تفعل – رحمك الله – إنكم من أنفسكم أُوتيتم إنما نخاف إن عُزل الحجاج أو مات أن تليكم القردة والخنازير).
- عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقط أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني).
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على المرء المسلم السَّمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).
- عن حذيفة بن اليمان، صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: قلت يا رسول الله ثم ماذا يكون بعد؟ قال: (إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه وإلا فمت وأنت عاضٌّ بجذع شجرة).
إذن نقول لا خروج ولا عصيان حتى الموت.
- عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (اسمع وأطع في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك).
- عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (السلطان ظل الله في الأرض من أكرمه أكرمه الله ومن أهانه أهانه الله).
- عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (سيكون بعدي سلطان ومن أراد ذله فقد ثغر في الإسلام ثغرة وليس له توبة إلا أن يسدها وليس يسدها إلى يوم القيامة).
- أخرج مسلم عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها تكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها. قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: (تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم).
قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: (إن فيه الحث على السمع والطاعة وإن كان الحاكم ظالماً وعسوفاً فيُعطى حقه من الطاعة ولا يُخرج عليه ولا يُخلع).
- وأخرج الإمام مسلم عن وائل بن حجر سأل سلمى بن يزيد الجحفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا فبماذا تأمرنا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا فإن عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم).
فهنا نؤكد أن هذا أمرٌ واضح وتوجيه صريح وتعليمات بينة من الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين من عباد الله بوجوب السمع والطاعة وحرمة المعصية.
قال الإمام القرطبي في معني هذا الحديث: (يعني أن الله تعالى كلف الولاة بالعدل وحسن الرعاية وكلف الرعية بالطاعة وحسن النصيحة فأراد بذلك أنه إذا عصى الأمراء الله فيكم ولم يقوموا بحقوقكم فلا تعصوا الله أنتم فيهم وقوموا بحقوقهم فإن الله مجازٍ كل واحد من الفريقين بما عمل). انتهى كلامه.
- ورد في صحيح مسلم، عن عوف بن مالك، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل: يا رسول الله، ألا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعة). وفي هذا الحديث نهيٌ واضح وصريح وقاطع عن الخروج على الحكام ومنابذتهم بالسيف أي السلاح وغيره.
وعدم الطاعة للحاكم إذا أمر بمعصية الله دليله حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ولا ينزعنَّ يداً من طاعة).
يقول المباركفوري في هذا الحديث: (إذا أمر الإمام بمندوب أو مباح وجبت طاعته وإذا أمر بمعصية فلا يطاع).
يقول حرب الكرماني عن هذا الحديث: (إن أمرك السلطان بأمر فيه لله معصية، فليس لك أن تطيعه البتة وليس لك أن تخرج عليه البتة، ولا تمنعه حقه).
يقول المطهر عن هذا الحديث: (سمع كلام الحاكم وطاعته واجب على كل مسلم سواء أن أمره الحاكم بما يوافق طبعه أو لم يوافقه، بشرط ألا يأمره الحاكم بمعصية فإن أمره بها فلا تجوز طاعته ولكن لا يجوز له كذلك محاربة الحاكم).
والقول: (فلا سمع ولا طاعة: يعني فيما أمر به من المعصية فقط، كأن يمنع الصلاة أو يأمر أن يمارس الربا أو الزنى أو أن يقتل مسلماً بغير حق فهنا وجب أن يُعصى أمر الحاكم ولا يُنفذ، مع وجوب الطاعة للحاكم مطلقاً إلا في المعصية). فالرعية مطالبة بالطاعة المطلقة في كل الأحوال ما عدا معصية الله.
في الحديث الذي رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك).
قال النووي: (المراد بذلك طاعة الحاكم في حالات الرضا والسخط والعسر واليسر والخير والشر فتجب الطاعة فيما تحب وتكره النفوس وحتى في حالة الأثرة وهي الاستئثار واختصاص الحاكم بأمور الدنيا ويؤثر بذلك نفسه وأهله، فالرعية هنا مأمورة بالسمع والطاعة فالله سبحانه وتعالى حمَّل الولاة وأوجب عليهم العدل بين الناس فإذا لم يقوموا بذلك كانوا من الآثمين وحمَّل الرعية السمع والطاعة والنصح والدعاء والصبر فإن لم تقُم الرعية بذلك كانوا من الآثمين والله يجازي كلاً بما حُمِّل إذا قاد الإنسان هواه إلى مخالفة هذا الأمر الحكيم والشرع المستقيم فلم يسمع ولم يطع لحِقَه الإثم ووقع في المحظور وبرئت منه ذمة الله ورسوله وفي هذا تعطيل للمصالح الدينية والدنيوية وحصول الفساد أما لو صبر الإنسان واحتسب وسأل الله الفرج وسمع وأطاع فلا يضيع حقه عند الله سبحانه وتعالى فربما عوَّضه الله خيراً منه أو ادخره له في الآخرة). انتهى كلام النووي.
- عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ليس السمع والطاعة فيما تحبون فإذا كرهتم أمراً تركتم الطاعة ولكن السمع والطاعة فيما كرهتم وأحببتم).
- عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه لا نبي بعدي ولا أُمَّة بعدكم ألا فأعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم طيبةً بها نفوسكم وأطيعوا أمراءكم، تدخلوا جنة ربكم).
حكمة مشروعية الميزة الشرعية والمكانة العلية للحاكم
إن ولي الأمر الحاكم له مكانة علية ومنزلة رفيعة وخاصية جليلة أعطاه إياها ومنحه لها الشارع الحكيم رب العرش العظيم وذلك لتناسب قدره مع علو وظيفته ورفيع منصبه وعظيم مسؤوليته في حراسة الدين وسياسة الدنيا والقيام بشؤون العباد فلذلك شكل الشرع سنداً للحاكم وتقوية سلطته وفرض هيبته وحماية ظهره ووجوب طاعته وحرمة معصيته.
فلما وضع الله سبحانه وتعالى للحاكم هذه المكانة العلية والمنزلة الرفيعة في شرعه وشريعته كان ذلك عين الحكمة، فكل شرع الله يقوم على الحكمة والعلم وهو العليم الحكيم، فلو لم يُعْطِ الله الحاكم هذه المكانة التي تناسب طبيعة عمله وفرض احترامه وتعظيمه، لأهانه الناس ولم ينقادوا له فتعم الفوضى وتفوَّت المصالح وتضيَّع الحقوق العامة والخاصة فيتحقق فساد الدين والدنيا وخسران الآخرة وقد أمر الشرع الحنيف بتوقير وتعزير الحاكم وذلك لحكمة ربانية عظيمة ومصلحة دنيوية كبرى وهذه المكانة العلية والمنزلة الرفيعة وهذا التوقير والتعزير والإعظام ليس لذوات الحكام أنفسهم وشخوصهم ولكن لما ولَّاهم الله من الحكم وآتاهم من الملك فالله يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء وهو على كل شئ قدير.
عن أبي بكر رضي الله عنه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (السلطان ظل الله في الأرض فمن أكرمه أكرمه الله ومن أهانه أهانه الله).
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيكون بعدي سلطان فأعِّزوه، فمن أراد إذلاله فقد ثغر في الإسلام ثغرة، وليست له توبة إلا أن يسدها وليس له أن يسدها إلى يوم القيامة). وفي حديث آخر لأبي بكر: (من أجل سلطان الله أجله الله يوم القيامة والسلطان ظل الله). قال أهل العلم أي يدفع الله به الأذى عن الناس، كما أن الظل يدفع عن الناس أذى حر الشمس. وإضافته إلى الله: (ظل الله.. سلطان الله). ليكون في هذا إعلام للناس بأن السلطان ظل ليس كسائر الظلال فهو أرفعها وأجلها وأعظمها فائدة ونفعاً وهذه الإضافة إلى الله هي إضافة تشريف كما يقال: (بيت الله) وكل هذا فيه إشارة واضحة إلى علو مكانة السلطان وشرف منزلته وعظيم مسؤوليته وضرورة الالتزام بحقوقه. ولهذا أكد الشرع على مكانة السلطان وأوجب توقيره وتعزيره مما يظهر للعامة عظمته وهيبته في النفوس فتكف عن إتيان المحظور معه وممارسة الممنوع عنه خشية بأس وسطوة السلطان. قال المناوي في كتابه (فيض القدير): (العلة المانعة من الظلم والتعدي إما عقل وضمير زاجر أو دين وشرع حاجز أو سلطان رادع ورهبة السلطان وردعه أبلغها وأهمها فتكون أشد زجراً وأقوى ردعاً وأقوى أثراً). انتهى كلام المناوي.
ولأن بني آدم مفطورون على الفوضى والتمرد وعدم الانقياد وعدم احترام النظام لذا نجد أن تساهل وتراخي الحاكم يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه فلا بد للحاكم أن يكون (مالي قاشو وعينو حمرا) وقاهر وحازم في شخصه وحاسم في قراراته حتى تسير الأمور على الصواب وقوامة الجادة والنظام حفظاً للحقوق وأداء للواجبات فإن الناس تكفهم عن ارتكاب العظائم والجرائم وترك الفوضى واحترام النظام والقانون، تكفهم عن ذلك مخافة السلطان وردعه أكثر مما تكفهم مخافة الله والقرآن بالأمر والنهي والإنذار والوعيد. (إنما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن). وهذا من معنى الكلام المأثور عن سيدنا عثمان بن عفان الخليفة الراشد.
أيها البرهان نخاطبك باسمك في هذه الدراسة باعتبار أنك الحاكم اليوم وسيعقبك حاكم آخر ومن ثم بعده حاكم فهذه سنة الله يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء فلو دامت لغيرك أيها البرهان لما آلت إليك ونوصيك بما أوصى به عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، سيدنا عثمان رضي الله عنه لما اجتمع عليه الخوارج يريدون خلعه فقال له: (يا عثمان إني لا أرى لك أن تخلع قميصاً قمصك الله فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم خرجوا عليه فخلعوه أو قتلوه). فيا أيها البرهان هذا ثوب ألبسك الله إياه فشرعاً لا تخلعه أنت لأحد من الناس إلا أن يشاء الله، فالله يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء متى شاء، فاليوم أنت رئيس السودان وبالأمس كان رئيس السودان عمر البشير وغداً رئيس لا يعلم اسمه إلا الله، فخاطبناك باسمك لمكانتك العلية ومسؤوليتك الجسيمة وصفتك الشرعية والعسكرية ونقول لك ما قاله الفقيه عبد الله بن عمر لعبد الملك بن مروان المستولي على الحكم بسيفه وسنانه: (إن كان خيراً رضينا وإن كان شراً صبرنا). أعانك الله وسدَّد على طريق الخير خطاك ومن يتق الله يجعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب فالله هو كافيك وناصرك إن نصرته ولينصرنَّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز وهو حسبك ونعم الوكيل عليه التكلان وإليه المصير.
حكم المظـاهـرات
ويدخل في حكم المظاهرات الإضراب والعصيان والاعتصام. فنجد أن مع انتشار الفساد في المجتمعات الإسلامية وسوء المنكرات والموبقات ومخالفة الشرع والبعد عن دين الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين ظهرت المظاهرات والاعتصامات والاضرابات والعصيان، وهذه كلها في أصلها ليست من عند المسلمين، فهي بدعة ومحرمة ولكن للأسف الشديد التزمها كثير من المسلمين العامة، ولكن المسلم الحق ليس من حقه أن يتصرف في حياته كما يشاء ولا أن يحتكم إلى عاطفته وهواه. فالمسلم الحق دوماً يحتكم إلى دينه وشريعته فينظر في حالة الإقدام على أمرٍ أهو موافق للشرع أم لا؟ فأهم أسباب الفتنة هو عدم فعل المأمور به واجتناب المنهي عنه في الشرع، هنا نجد أن المظاهرات تشتمل على مخالفات عديدة للشرع وهي :
- إن هذه المظاهرات ليس لها أصل في الكتاب والسنة ولا في عمل ولا علم السلف ولا أقوال العلماء والفقهاء فهي بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، بل قد أفتوا بتحريمها.
- أنها تخالف النصوص الشرعية المستفيضة في طاعة الحكام والصبر على جورهم وعدم الخروج عليهم أو عصيانهم وإن فسقوا وإن جاروا.
- أنها مخالفة للطريقة الشرعية في مناصحة الحكام والصبر على ظلمهم وجورهم.
- انها تشتمل على سب لولاة الأمور وقد نهى الشرع عن سب الحكام.
- أنها تشتمل في الغالب على معاصي عديدة مثل تضييع الصلوات والتبرج والاختلاط ورفع النساء لأصواتهن وترويج المخدرات وطلب رفع الظلم من الكفار والاستعانة بهم بما يخالف عقيدة الولاء والبراء وغير ذلك من المفاسد والشرور.
- أنها تؤدي في الغالب إلى مفاسد أعظم من جور الحكام وفسادهم مثل سفك الدماء والقتل وتضييع الأموال وبث الفوضى والفساد وضياع الأمن وتضييع مصالح البلاد والعباد .
- أنها تؤدي في حالة اشتدادها الى التدخل الأجنبي الكافر في بلاد المسلمين . وكذلك هي سلوك غير إسلامي ظهر عند الكفار وقام على أصل عندهم لا يعرفه الإسلام وهو الديمقراطية أي حكم الشعب.
وبكل أسف انتقل هذا الفهم الباطل وانتشر بين المسلمين وقبول كثير منهم لما يسمى بالديمقراطية برغم ما تقرر في شرعنا أنه لا يجوز التشبه بالكفار في شيء من أمور دينهم وأفكارهم ومعتقداتهم الباطلة.
فكل ما ذكر سابقاً وغيره كثير عن مفاسد ومضار المظاهرات وهي لم تأت بخيرِ قط في كل زمان ومكان فهي بدعة ومحرمة بلا شك ولا يحل لمسلم تشجيعها أو المشاركة فيها بل مطلوب من أهل العلم الناصحين أن يوضحوا للناس حقيقة هذا الأمر ومخالفته لشرع الله وهدي رسوله ومواقف السلف الصالح من ذلك وكل الأئمة والعلماء في أي زمان ومكان.
المتـاريـس
إن وضع الأذى في الطريق شعبة من شعب الكفر ، الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بإماطة الأذى عن الطريق وذكر أن الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). متفق عليه.
وفي حديث آخر للرسول صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت عليَّ أعمال أمتي فرأيت من أحسنها إماطة الأذى عن الطريق). أو كما قال.
وفي هذا قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله إن أي واحدة من شعب الإيمان الواردة في الحديث يكون ضدها شعبة من شعب الكفر، فإذا كانت إماطة الأذى عن الطريق واحدة من شعب الإيمان فيكون ضدها وضع الأذى في الطريق واحدة من شعب الكفر.
بهذا الفعل نرى هؤلاء الخارجين يقطعون الطريق على أصحاب الحاجات والضرورات الصحية والعلاجية والاجتماعية والحياتية ولا يقدرون كل هذه الضرورات ولو بفهم الإنسانية.
فكيف يكون من يأتي هذا الفعل ويضع الأذى في الطريق من المتاريس وإحراق اللساتك (الإطارات) يسدون على الناس الطريق ويعطلون مصالح وقضاء حوائج الناس، فهل هذا مقبول ذوقاً وعقلاً وأدباً قبل أن يكون منهياً عنه شرعاً وديناً. لكنها المعصية ومعصية كبيرة والداهية أكبر ولكن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى.
الفتنة وآثـــــــــارها
لابد من الوقوف على جوانب مهمة تتعلق بموضوع الفتنة والآثار التي تترتب عليها حال وقوعها وذلك من باب الحيطة والحذر لأن معرفة آثار الشيء وعواقبه تعطي الإنسان قدراً كبيراً من الحصانة والحذر من الوقوع فيه، ويعتبر أمر الخروج على الحاكم وولي الأمر من أعظم الفتن وأكبر الشرور مآلاته سيئة وعواقبه وخيمة تجر على الإسلام وأمة الإسلام ما لا تحمد نتائجه وتفتح لأعداء الإسلام المسلمين باباً يُنفِذون من خلاله كل الدسائس والمؤامرات والكيد ضد الإسلام والمسلمين.
فمعرفة آثار الفتن نافعة للعبد ومفيدة له فائدة عظيمة وهو من باب النظر في تقدير عواقب ومآلات الأمور فالعبد لابد له قبل أن يُقدم على أمر من الأمور، لابد له من النظر في عاقبته وآثاره، هكذا ينبغي أن يكون المسلم ناظراً متأملاً متروياً ومتفقهاً في آثار الفتنة ويسأل أهل العلم وأهل الذكر قبل أن يقتحم ذلك ويكون رأساً فيها فاتحاً باباً للشر عليه وعلى غيره، فقد جاء في الحديث في سنن ابن ماجة من حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس ناساً مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفتاح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفتاح الشر على يديه).
وكما في حديث أبو هريرة، رضي الله عنه، قال: قال عليه الصلاة والسلام: (ستكون فتنةٌ، القاعد فيها خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي). [ رواه البخاري ومسلم ].
فالنبي، صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث يحذِّر أمته من السعي في الفتنة، وقد جاء عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، رضي لله عنه، أنه قال: (إنه ستكون أمور مشتبهات، فعليكم بالتّؤدة، فإنك إنْ تكُن تابعاً في الخير خير من أن تكون رأساً في الشر). فقد أوصى رضي الله عنه بالتأني وعدم التعجل. وفي حديث آخر عن سيدنا علي، رضي الله عنه، أنه قال: (لا تكونوا عُجلاً مذاييع بُذراً، فإن من ورائكم بلاء مبرحاً أو مكيلاً وأموراً متماحلة رُدَحاً). أي: ثقيلة وشديدة- فقد أوصى، رضي الله عنه، بأمور ونهى عن العجلة والتسرع، كما ينبغي أن يتأنّى الإنسان ويتروى وينظر في العواقب والآثار ثم من بعد ذلك يُقدم على الأمر.
كما أنه، رضي الله عنه، حذَّر غاية التحذير عندما تشتد الفتن وتلتهب لا ينبغي للإنسان أن يكون ساعياً في اشتعالها بكلامه ومقاله وسعيه بأن يكون مذياعاً للفتنة ومذياعاً للشر ومزكياً لناره، أي أن المرء كلما كان بعيداً عن تحريك الفتنة وإيقادها كان خيراً له وأصلح، يبتعد عنها ويسأل الله أن يعيذه ويعيذ المسلمين من شرها لا أن يكون أداة في انتشارها.
فقد جاء في صحيح مسلم من حديث زيد بن ثابت، عن نبينا، عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن)، فقال الصحابة، رضي الله عنهم: (نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن).
فهذا أمر ينبغي على كل مسلم الاعتناء به والمحافظة عليه لأن الحافظ هو الله والمعيذ هو الله، فنلجأ إلى لله لجوءاً صادقاً فلا ملجأ منه إلا إليه، أن يقينا ويعيذنا ويحمينا وعامة المسلمين من الفتن وأخطارها وأن يصلح لنا أحوالنا وأن يجمع كلمتنا على الحق والهدى وأن نكون في غاية الحذر والحيطة من ذلك، إنه نعم مسؤول سميع مجيب.
فيجب على المسلم أن يبعد نفسه عن أن يكون مفتاحاً للشر ورأساً فيه وداعية من دعاته، يورط نفسه وغيره في ورطات لا يحمد لا هو ولا هم عواقبها لا في الدنيا ولا في الآخرة.
فهنا نقول إن باب فقه عواقب الفتن وآثارها وما يترتب عليها من أضرار وأخطار باب مهم جداً لكل مسلم، وفيه من الفوائد ما هو كثير جداً كذلك. ونجد أن للفتن آثاراً كثيرة ومتباينة فنذكر أهمها راجين من الله العلي القدير أن يكون في ذلك خير ونفع للبلاد وهداية للعباد والناس أجمعين، أهل السودان وكل أمة الإسلام إلى سبيل الرشاد.
الأثر الأول:
وهو انصراف الناس عن عبادة ربهم وهو من أكثر الآثار سوءاً فينصرف العباد عن العبادة التي خلقوا لأجلها، والطاعة التي أوجدوا لتحقيقها وينصرفوا كذلك عن ذكر الله تبارك وتعالى فتصبح حياتهم وأوقاتهم مشغولة بالقيل والقال، وقلب العبد يكون مشوشاً ومضطرباً غير مطمئن وخاطره منشغلاً بالفتنة والخروج على ولي الأمر، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن نبينا، عليه الصلاة والسلام أنه قال: (وعبادة في الهرج كهجرة إليَّ). [ اخرجه الطبراني]. وهذا يدل على أن من كان في وقت الهرج والتظاهر ونشوب الفتن منشغلاً بالعبادة فإنه موفق وسالم من شرور الفتنة، ويدل أيضاً على أن الذي ينبغي على الإنسان حال الفتنة هو الإقبال على العبادة والذكر وتجنب الفتنة ليفوز بالسعادة والطمأنينة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن نبينا، عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (إن السعيد لمن جُنِّب الفتن- وكررها عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات). [أخرجه أبو داؤود].
فالسعادة في تجنب الفتن والاشتغال بالعبادة والذكر والطاعة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما شرع من أنواع العبادات والأذكار والقربات والدعاء وتلاوة القرآن وأن نسأل الله ونقبل عليه إقبالاً صادقاً بأن ينجينا ويجيرنا ويسلمنا من الفتنة وشرورها.
فلما وقعت الفتنة في زمن التابعين، قال الحسن البصري، رحمه الله، وهو ممَّن اعتزل الفتنة: (يا أيها الناس إنه – والله – ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع).
الأثر الثاني:
ومن الآثار السيئة للفتنة وعواقبها كذلك أنها تصرف الناس عن مجالس العلم ومجالسة العلماء ومعرفة الدين وتعلُّم الأحكام فتكون القلوب مشغولة بنار الفتنة والتظاهر والتهييج بل إن الفتنة تُفضي بكثير من الناس إلى انتقاص العلماء وعدم معرفة أقدارهم والوقيعة فيهم، والنيل منهم والتقليل من شأنهم في جرأة سافرة والعياذ بالله، وقد جاء في الحديث عن نبينا، عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (ليس من أمتي من لم يرحم صغيرنا ويوقِّر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه). [أخرجه أحمد من حديث عبادة بن الصامت، رضي الله عنه].
وقد جاء في الأخبار التي تروى في التاريخ عن هذا المعنى أنه لما كانت فتنة عبد الرحمن بن الأشعث، وقد دخل في هذه الفتنة عدد من القراء وكثير من الناس، فانطلق نفر من الناس، فدخلوا على الحسن البصري، وهو إمام من أجلّ أهل العلم، وفقيه من كبار فقهاء الإسلام دخلوا عليه فقالوا: (ما تقول في هذا الطاغية – يقصدون الحجاج – الذي سفك الدم الحرام وأخذ المال الحرام وترك الصلاة وفعل وفعل …. ؟) وذكروا له عدداً من أفعال الحجاج، فقال الحسن البصري، رحمه الله: (لا أرى أن تقاتلوه، فإنّها إن تكن عقوبة من الله – أي تسليط الحجاج – فما أنتم برادِّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء، فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين). فخرجوا من عنده وهم يقولون: (نطيع هذا العلج؟!). –يقصدون الحجاج- فلم يستجيبوا لنصح البصري وخرجوا مع ابن الأشعث فقتلوا جميعاً، فلم يحصلوا خيراً ولم يستفيدوا كذلك من نصائح أهل العلم – الحسن البصري-، لأنّ أهل العلم لم يصبح لهم مقام عند هؤلاء وليس لكلامهم أي اعتبار أو شأن برغم أنّهم يقولون بالحق ويأمرون بالشرع.
فالفتن تجعل الناس يتجرأون على مقام العلماء وانتقاصهم والوقعية فيهم وهذا من أخطر ما يكون على الإنسان، فعندما يقول العالم قولاً لا يوافق أهواءهم ولا يمشي مع توجهاتهم يطعنون به والشواهد على ذلك كثيرة في قديم الزمان وحديثه وحاضرنا اليوم يشهد بذلك أن الخارجين اليوم يتطاولون على مقام العلماء بل ربما وصفوهم بما ليس فيهم بل ربما رموا العلماء بمداهنة الحاكم والعمالة للحكومة وربما رموه بأوصاف وألقاب لا حدّ لها.
الأثر الثالث:
وكذلك من الآثار السيئة للفتنة والتي تضر بالأمة أن يتصدَّر السفهاء ومن لا علم عندهم ولا فقه لديهم في دين الله، يتصدرون الحماسة ودون دراية ولا أناةٍ ولا تؤدة، فيُلقون الأحكام جزافاً ويقِّرون الأقوال جهلاً، ويُرجِفون في المدينة ويدخلون في أمر الفُتْيا وغيرها وهم لا يُعرَفون بعلم ولا حلم بل يدفعهم إلى ذلك جهل وحماسة تجرّهم إليها الفتن.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في كتابه (المنهاج): (والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء). وهذا ما يحدث عندنا اليوم بتمامه وكماله كما لو أن ابن تيمية قد رأى ذلك بفراسته وفطنته وعلمه وهذا شأن الفتن كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. [سورة الأنفال 25].
الأثر الرابع:
ومن الآثار العواقب الوخيمة والمآلات المردية. فلا يُنال من الفتنة خير قط، فقد تتبع شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، جملة من الفتن التي ثارت في أزمنة قبله وقام برصدها رحمه الله وذكر في كتابه: (منهاج السنة) خلاصة نافعة ومفيدة لمآلات تلك الفتن، فقال رحمه الله: (ما من أحد خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد عن فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير). وذكر لذلك أمثلة كثيرة لفتن حصلت ولخّص، رحمه الله، نتائج وآثار تلك الفتن فقال: (فلا أقاموا ديناً، ولا أبقوا دنيا). وكذا قول ابن تيمية هذا مثل قوله السابق أن ما قاله يحدث عندنا بكماله وتمامه بذات القدر، فهذه هي بصيرة أهل الإيمان وأهل الحق، أي أنّ من تصدّروا الفتن وسعوا فيها، ما أقاموا ديناً ولم يبقوا دنيا لأن الفتنة إذا ثارت يقع القتل ويكثر الهرج ويموج الناس ولا يُحصّل مثيروا الفتنة أي خير، وتكون مآلاتهم إمّا إلى حبس أو إلى قتل أو إلى هروب أو غيرها من النهايات وهذا متكرر في التاريخ ويتحقق في زماننا هذا، والسعيد – كما يقال – من اتعظ بغيره، بل إنّ عدداً كبيراً ممن شاركوا في الفتن ودخلوا فيها كانت نهايتهم فيها الندم والحسرة وتمنّوا أن لو لم يدخلوا فيها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : (وهكذا عامّة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال). [منهاج السنة].
ويقول أيوب السخستياني – رحمه الله – وقد ذكر القراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث فقال: (لا أعلم أحداً منهم قتل إلا رُغِّب له من مصرعه، ولا نجا منهم أحد إلا حمد الله الذي سلمه وندم على ما كان منه).
ومن الأخبار المفيدة من هذا الجانب قصة زبيد بن الحارث وهو من علماء الإسلام وممّن دخل في فتنة ابن الأشعث ولكنّه سلم منها وسلم من القتل، قال محمد بن طلحة: (رآني زبيد مع العلاء بن عبد الكريم ونحن نضحك، فقال زبيد: لو شهدت الجماجم ما ضحكت). والجماجم هي جماجم المسلمين تتساقط بأيدي المسلمين أنفسهم بقتل بعضهم بعضاً، ثم قال زبيد: (ولوَدِدَتُ أن يدي -أو قال: يميني- قُطعت من العضد ولم أكن شهدت ذلك).
ثم جاءت فتنة بعد ذلك وقد دُعيَ إليها زبيد، فذُكِر له أن أهل البيت يُقتلون ويريد منصور من زبيد أن يخرج مع زيد بن عليّ في فتنة أخرى، فقال زبيد رحمه الله: (ما أنا بخارج إلا مع نبي وما أنا بواجده). أي: إنني لن أجد نبياً أخرج معه. هذه قالها عن معرفة وتجربة ومعاينة للآثار التي حُصِدَت من تلك الفتن.
الأثر الخامس:
نجد أيضاً أنّ من آثار الفتنة أن من يدخل فيها وهو من أهل العلم تؤدي به إلى نقوص قدره وسقوط شأنه، ومن سلم من تلك الفتنة تكون سلامته منها رفعة له وسبباً لانتفاع الناس بعلمه ومضي الخير وجريانه على يديه بتوفيق من الله تبارك وتعالى.
وفي هذا قال عبد الله بن عون: (كان مسلم بن يسار عند الناس أرفع من الحسن البصري، فلما وقعت الفتنة خاض مسلم فيها وأبطأ عنها الحسن أي تأخر واعتزل الفتن، فأمّأ مسلم فإنه اتضع عند الناس وأما الحسن فإنه ارتفع عند الناس).
مسلم بن يسار كان ممن دخل في فتنة ابن الأشعث ولما انتهت الفتنة كان يحمد الله ويقول: )إني أحمد الله أني لم أرمِ فيها بسهم ولم أطعن فيها برمح ولم أضرب فيها بسيف ولكن مشيت معهم). فقال له عبد الله بن عون: (يا أبا عبد الله فكيف بمن رآك واقفاً في الصف وأنت عالم معروف ومكانتك معروفة بين الناس وقوفك وحضورك وقيامك بين هؤلاء، ووجودك نفسه، هذا مما يزيد الفتنة).
فبكى مسلم بن يسار من كلام عبد الله بن عون هذا أشد البكاء حتى تمنى عبد الله بن عون أن ليته لم يقل شيئاً لمسلم متأثراً للحالة التي آل إليها أمره عندما ذكّره بخطورة وقوفه مع الفتنة حتى بدون مشاركة، فكيف بمن شارك؟!.
الأثر السادس:
وهو اشتباه الأمور واختلاط الحق بالباطل، فمن آثار الفتن وعواقبها أنّ الأمور تشتبه وتختلط على الناس ولا يميّز كثير من الناس بين الحق والباطل، ويقتل الرجل الرجل ولا يدري فيما قُتل! ويقتله قاتله ولا يدري فيما قتله!! فيموج الناس، وتتغير النفوس، وتعظم الأخطار، وتضطرب الأمور ، وتُحدقُ الشرور بالناس، فتصبح فتنة عظيمة ومصيبة كبيرة.
يقول أبو موسى الأشعري، رضي الله عنه: (إن الفتنة إذا أقبلت شبَّهت وإذا أدبرت تبيَّنت). بمعنى إذا أقبلت الفتنة يكون أمرها مشتبهاً على الناس غير متّضِح، فإذا أدبرت عرف الناس حالها وتبين لهم أمرها واتضح لهم شرها وفسادها.
ويقول مطرف بن عبد الله الشِّخِّير: (إن الفتنة لا تجيء حين تجيء لتهدي الناس، ولكن لتقارع المؤمن على دينه).
وهنا نذكر قصة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، يقول ابن سيرين: قيل لسعد: (ألا تقاتل -وهو القتال الذي كان بين معاوية وعلي بن أبي طالب-، رضي الله عنهما، وكان سعد ممّن اعتزل كل ذلك وابتعد عنه، فقالوا له: ألا تقاتل؟ فإنّك من أهل الشورى وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟! فقال: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان ويعرف المؤمن من الكافر). فهو يريد سيفاً يعرف المؤمن من الكافر، فإن ضرب به مسلماً نبّأ عنه فلا يقتله وإذا ضرب به كافراً قتله، ثم قال: (فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد). يريد أنّ مثل هذا القتال الذي تتساقط فيه رؤوس المسلمين ويقتل بعضهم بعضاً،- لا أدخل فيه إلا أن تأتوني بسيف هذه صفته-.
فكان منهج سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وجماعة الصحابة، رضوان الله عليهم، أنّ الحل في الأمر الذي كان بين معاوية وبين عليٍّ ليس السيف، وإنما الحل السعي في الصلح وجمع الكلمة والتروِّي في الأمور، وكان هذا رأي الجماعة من الصحابة الذين قالوا: (نلزم ما فارقنا عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن). هؤلاء هم الذين تخرجوا من مدرسة النبوُّة اتباعاً واقتداءً وتمسكاً في السلوك والقول والعمل.
الأثر السابع:
أيضاً في الفتن ومما يترتب عليها أنّها تكون سبباً ووسيلة لاستدراج الشباب والناشئة وصغار السن والتغرير بهم من خلال خطوط ومسارات وشعارات إلى أن يصلوا إلى عواقب وخيمة ونهايات مؤلمة، وبذات القدر نجد أن هذا الأثر السيء من آثار الفتنة هو كذلك يحدث اليوم عندنا أيضا بتمامه وكماله وهذا هو شأن الحق في الأمر والنهي فالحق لا تناقض فيه البتة ولكن نجد أن التناقض هو من شأن وصفات الباطل، وهنا ينبغي على الشباب أن لا يغتروا بالدعايات التي ترفع والشعارات التي تُثار والعبارات التي تُقال والهتافات التي تعلو، بل إذا دُعي الشاب إلى أمر فعليه أن يرجع إلى أكابر أهل العلم، فقد قال – عليه الصلاة والسلام – : (البركة مع أكابركم). [أخرجه ابن حبان والطبراني والحاكم والذهبي].
أهل العلم الراسخون والمعروفون بالتحقيق فيه، الذين طالت قدمهم في الفتوى والبيان والتوجيه والنصيحة والتعليم، فإذا دُعي الشاب إلى طريق أو مسار أو مسلك يرجع إلى هؤلاء العلماء ويسأل.
وفي الفتنة قد يستدرج الشباب والناشئة ويؤخذون إلى أن يدخلوا في أمور عظيمة وورطات جسيمة لا يجدون لأنفسهم منها مخرجاً.
فتكون البدايات من ناحية مثيري الفتن والشغب والتظاهر والخروج تجاه الشباب في أشياء مألوفة وأمور معروفة ومطالب مقنعة، فيتعاهدون على ذلك ولكن ما يلبثون إلا أن يضيفوا إليها أشياء أخرى وأغراضاً مختلفة وأهدافاً خاصة بأؤلائك المخططين، بعدها يجد الشباب نفسه التزم بعهد أو دخل في تنظيم أو بيعة فيجد نفسه في مسار يحتار فيه وربما يصعب عليه الرجوع عنه وقد قطع فيه شوطاً بعيداً وتورط في هذا المسلك والمسار، فالشاهد أنّ الفتن يُستدرج فيها كثير من الشباب وصغار السن في تنظيمات وتحزبات وبيعات أو نحو ذلك ممّا يترتب عليه مالا يحمدون عاقبته، بينما إذا كان الشاب موفقاً ومنّ الله عليه بالتوفيق بالرجوع لأهل العلم والعلماء فإنه يسلم من كل ذلك بإذن الله.
الأثر الثامن:
وهو إضعاف الأخوة الإيمانية والرابطة الدينية، فنجد أنّ من آثار الفتن ومآلاتها المردية أنها تفكك المجتمعات وتضعف الأخوة الإيمانية والرابطة الدينية وتنشر بين الناس الضغائن والأحقاد والعداوات والاختلاف والمشاكسة، وتُغيِّر النفوس، كل هذا يحدث عندما تتأجج الفتن وتثور الفوضى ويكثر الشر. وجاء من حديث حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه قال: (كان أصحاب رسول لله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنّا كنّا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ فقال: نعم. فقلت: يا رسول الله وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دَخَن). فالفتنة تخلخل معاني الأخوة ورابطة الإخاء والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. [سورة الحجرات : 10].
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ولا يحقره، التقوى ها هنا، بحسب أمرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ومضطردة.
الأثر التاسع:
وهو الجرأة على القتل وسفك الدماء فنجد أنّ من عواقب الفتن ومآلاتها السيئة أنها ترخُص فيها دماء المسلمين بينهم وتتجرأ النفوس على القتل ويستحل الناس دماء بعضهم كما يحدث عندنا الآن.
فقد جاء عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أنّه قال: (في الفتنة لا ترون القتل شيئاً). وكان، رضي الله عنه، عظيم النهي عن الدخول في إراقة الدماء واستلاب الأموال والتعدّي على الأعراض وله في هذا كلمة عظيمة وجميلة ينبغي أن تُحفظ ويحافظ عليها ألا وهي أنّ رجلاً كتب إلى ابن عمر رضي الله عنه أن اكتب إلىّ بالعلم، فكتب إليه ابن عمر: (إن العلم كثير – يا ابن أخي – ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء المسلمين، خميص البطن من أموالهم، كافّ اللسان عن أعراضهم، لازماً لجماعتهم فافعل). وهي من أعظم الوصايا وأجمعها للعلم والخير كله.
الأثر العاشر:
وهو اختلال الأمن وهذا من الآثار الخطيرة والمخيفة والمدمرة التي تترتّب على نشوب الفتن وانتشار الفوضى وكثرة الهرج والمرج في الحياة، فوقوع الفتنة يؤدي إلى اختلال الأمن وفقدان الطمأنينة، والأمن أعظم النعم التي مَنّ الله – سبحانه وتعالى – بها على أمّة الإيمان والإسلام، فقال تعالى: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ). [سورة قريش: 4].
فالأمن نعمة عظيمة ومنّة كبيرة، أمن الإنسان على نفسه ودمه، أمنه على ماله وعرضه، أمنه على دينه ووطنه، وغيرها، فهذه كلها من النعم الكبار، ولكن إذا اضطربت الأمور وشبّت الفتن واشتعلت، أريقت الدماء وأتلفت الأموال، وأزهقت الأرواح وهتكت الأعراض ويُتِّمَ الأطفال ورُمِّلت النساء وفُقِدت الطمأنينة والسكينة إلى غير ذلك من المآلات والعواقب التي لا تُحمد فيفقد المجتمع أمنه واستقراره وازدهاره وعافيته.
الأثر الحادي عشر:
وكذلك نجد أنّ من آثار الفتن تجرؤ أهل الانحلال على نشر باطلهم، فإنّ الفتنة تفتح على الناس أبواباً من الانحراف في الجوانب الدينية والأخلاقية والسلوكية فتختل القيم ويكثر الفساد وتعم الفوضى ويكثر الشر ويقل الخير.
وهنا يتجرأ أهل الانحلال في نشر باطلهم وفسادهم ويصطادون في الماء العكر لأنّ أهل الحق شغلتهم الفتنة واشتغلوا بها وضيّعت أوقاتهم وصرفتهم عن باب الإفادة والنفع والانتفاع وصد الباطل وأعوانه، فيستغل أهل الفساد والشر هذا الظرف فيبدأون في بث الباطل ونشر الشر والدعوة إلى الرذيلة والسلوك المنحرف والانحلال العقدي والمذاهب الباطلة والفاسدة، فيجدون لأنفسهم فرصة عند اشتغال الناس وأهل الخير بالفتن، وهذا مثله واقعنا بدرجة تبلغ حد التطابق.
وهنا يجب التأكيد لكل مسلم حريص كيِّس فطن أن يكون في غاية الحذر من الفتن وعوائدها المدمّرة ومآلاتها السيئة فلا يسلك هذا المسلك ولا يفرط في دينه ودنياه.
الأثر الثاني عشر:
وهو أثر أخير وخطير ألا وهو تسلط أعداء الأمة عليها، فإنّ الفتن تؤدي وتُفضي إلى تسلط أعداء الأمة عليها عندما يتنازع أهل الحق ويعلو صوت الباطل ويفشو فيهم الهرج والقتل والاضطراب وتفرُّق الصف واختلاف كلمتهم وذهاب ريحهم، والحال هذا يستغله الأعداء فيتسلطون على أهل الإيمان والحق ويضغطون عليهم بكثير من الضغوطات والشروط والكيد، والتجسس والتخابر عليهم والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). [سورة الانفال 46]. فسبحان الله دين الله واحد وشرعه واحد حكمته واحدة أفلا يرى الناس اليوم أن الذي يحدث عندنا هو ليس إلا ما قيل في الفقرة السابقة؟ ألا تعيش أمة السودان اليوم هذا الأمر كما ذُكر إجمالاً وتفصيلاً؟!.
فالواجب على الأمة من أهل الإيمان والإسلام في السودان وغيره أن يكونوا حذرين كل الحذر من الفتن وأخطارها وأن يكونوا في حيطة كاملة من ذلك، وأن يقبلوا على الله إقبالاً صادقاً بأن يُعيذهم من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلح لهم أحوالهم وحكامهم وأن يجمع كلمتهم على الحق والهدى والصراط المستقيم وأن يعتصموا بحبل لله جميعاً ولا يتفرقوا.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وبأنه الله الذي لا إله إلا هو الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، أن يعيذنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يُجيرنا من الفتن وشرورها وأن يسلمنا من غوائلها، وأن يحفظنا بحفظه – تبارك وتعالى – إنّه سميع مجيب.
حقوق الراعي والرعية
حقوق الإمام، ولي الأمر، على الرعيّـة: هي عشرة حقوق كالآتي:
- بذل الطاعة ظاهراً وباطناً في كل ما يأمر به أو ينهى عنه إلا أن يكون معصية لله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فقد أوجب الله ورسوله طاعة ولي الأمر ولم يستثنِ من ذلك إلا معصية الله، فبقي ما عدا هذا واجب الامتثال والاستجابة بالطاعة.
- بذل النصيحة له سراً وعلانية عنده، ويوضح نصيحة الحاكم ما رواه ابن أبي عاصم عن فيّـاض بن غنم أنّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فلا يُبدها له علانية، فليأخذ بيده وليخلوا به، فإن قبلها قبلها، وإن ردّها كان قد أدّى ما عليه). فلا قول لأحد مع قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكل قول خالف قوله عليه الصلاة والسلام فهو مردود.
- القيام بنصرته باطناً وظاهراً ببذل المجهود في ذلك لما فيه نصر المسلمين وإقامة حرمة الدين وكف أيدي المعتدين.
- أن يُعرف له عظيم حقه وتعظيم قدره وما يجب له من الاحترام والإكرام، وكذلك كان العلماء الأعلام من أئمة الإسلام يعظّمون حرمتهم، ويلبَّون دعوتهم مع زهدهم وورعهم وعدم الطمع فيما لديهم.
- إيقاظه عند غفلته وإرشاده عند هفوته، شفقة عليه، وتبصيراً له وحفظاً لدينه وعرضه، وصيانة لما جعله الله إليه من السلطان من أن يخطيء فيه، وذلك نصيحة له بمفرده أو في مجلس من معاونيه.
- تحذيره من أي عدو يقصده بسوء، أو حاسد يرومه بأذى، أو خارجي يخاف عليه منه، ومن أي شيء يخاف عليه منه، فإن كل ذلك من آكد حقوقه وأوجبها.
- إعلامـه بسيرة عماله الذين هو مطالب بهم ومسؤول الذمة بسببهم، حتى ينظر لنفسه في خلاص ذمته، وللأمة في مصالح رعيته.
- إعانته على ما تحمّله من أعباء الأمة ومصالحها ومساعدته على ذلك بقدر ما هو ممكن، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}.
- رد القلوب النافرة عنه إليه، وجمع محبة النّـاس عليه، لما في ذلك من مصالح الأمة وانتظام أمور الملة والدولة.
- الذَّبُّ عنه والدفاع دونه بالقول والفعل وبالمال والنفس والأهل ظاهراً وباطناً.
فإذا وفّت الرعية بهذه الحقوق العشرة الواجبة، وأحسنت القيام بها، صفت القلوب وأخلصت، واجتمعت الكلمة وانتصرت وتوحدت الأمة وانصلح حال البلاد والعباد وأمر الدين والدنيا والآخرة.
[ملخص من تحرير الأحكام بتصرف].
حقوق الرعية على الإمام ولي الأمر فهي تسعة حقوق كالآتي:
- حماية بيضة الإسلام والدفاع عنها بصد المحاربين والباغين والمعتدين، وتدبير الجيوش وإعداد الجنود وتحصين الثغور بالعدة والعتاد، وتدبير أرزاق الجنود وصلاح أحوالهم والاهتمام بكل شؤونهم الخاصة والعامة فلا يهمل أمر الجيش وأن يكون في أولويات اهتماماته ومقدمات صرفه وميزانياته.
- حفظ الدين على أصوله المقررة وقواعده المحررة، ورد البدع والمبتدعين، وإيضاح حجج الدين، ونشر العلوم الشرعية، وتعظيم العلم وأهله ورفع منارته ومحله، ومخالطة العلماء الأعلام النصحاء لدين الله ومشاورتهم.
- إقامة شعائر الإسلام: كفروض الصلوات، والجمع والجماعات، والأذان والإقامة، والخطب والإمامة، والنظر في أمر الصيام والفطر وأهلّـته، وحج البيت الحرام والعمرة والأعياد والاعتناء بكل ذلك من كل الوجوه.
- الفصل في القضايا والأحكام بتقليد الحكام والولاة والقُضاة لقطع المنازعات بين الخصوم، وكف الظالم عن المظلوم وحفظ الحقوق، ولا يولي ذلك إلا من يثق بديانته وأمانته وقوته من العلماء الصلحاء والكفاءة النصحاء، ولا يدع السؤال عن أخيارهم والبحث عن معرفة أحوالهم، فإنّـه مسئول عنهم.
- إقامة فرض الجهاد بنفسه وجيوشه، وسراياه وبعوثه.
- إقامة الحدود الشرعية على الشروط المرعية صيانة لمحارم الله من التجرؤ عليها، وحفظاً لحقوق العباد من التخطي إليها، ويعدل في الحدود بين القوي والضعيف، والوضيع والشريف.
- جباية الزكوات من أهلها، وصرف ذلك في مصارفه الشرعية وضبط ذلك بتفويضه إلى الثقات من العلماء.
- النظر في أوقاف البر والقربات وصرفها فيما هي له من الجهات، وتسهيل سبل الخيرات، وتوفير سبل العيش الكريم ومتطلبات حياة الناس كلها.
- العدل في سلطانه وفي جميع شأنـه.
كيف تصنع الرعيّـة إذا بخسها الإمام ولي الأمر حقّـها؟
فقد أخرج الشيخان عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها. قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك ذلك؟ قال: تؤدّون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الحق الذي لكم). [رواه مسلم].
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: (هذا من معجزات النبوة، وقد وقع هذا الإخبار متكرراً، وفيه الحث على السمع والطاعة، وإن كان المتولي ظالماً عسوفاً فَيُعْطَي حقه من الطاعة ولا يُخرج عليه ولا يُخلع، بل يُتضرَّع إلى الله تعالى في كشف أذاه ودفع شره وإصلاح حاله).
النتائج الحتمية للخروج على الحاكم
سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم الذي وسع كل شيء رحمة وعلما وهو العليم القدير لا يُشرك في حكمه أحد، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، يفعل ما يريد ولا يُسأل عما يفعل، يفعل كل شيء بعلمه وحكمته وتقديره، يأمر بالخير والمعروف وينهى عن الشر والمنكر، وطلب من العباد الالتزام بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه فالعبد الذي يلتزم أوامر الله ويجتنب نهيه يكون قد أطاع الله ورسوله وله الجنة بإذن الله والذي لا يفعل ذلك يكون قد عصى الله ورسوله وله النار، فالثواب إنما يكون على الطاعة والطاعة هي موافَقة الأمر والعقاب إنما يكون على المعصية والمعصية هي موافَقة النهي.
وقدر الله سبحانه وتعالى وقرر أن في التزام الطاعة يكون الخير والمعروف كله وفي التزام النهي يكون الشر والمنكر كله، لأن الله هو العليم القدير عالم الغيب والشهادة. فربنا الله سبحانه وتعالى ومنذ الأزل يعلم ما كان وما سيكون، يعلم ذلك ولا تخفى عليه خافية لا في الأرض ولا في السماء، يعلم النتائج والمصير في الدنيا والآخرة التي تترتب على طاعته وما هي نتيجة عكس ذلك التي تترتب على معصيته في الدنيا والآخرة، إذن لو كان الناس يعقلون ويسمعون ويبصرون فإن هذا الأمر – التزام الطاعة واجتناب المعصية – في غاية الوضوح والبيان فلو كان للناس قلوب يفقهون بها أو آذان يسمعون بها وأعين يبصرون بها لما تركوا الحق طاعة الله وأتوا الباطل معصية الله ولكن الله يُضل من يشاء ويهدي إليه من يشاء.
فإن الخروج على الحاكم لم يأت بخيرٍ البتة –من أين له بالخير وهو يحارب الله ورسوله – لا من قبل ولا من بعد ولن يأت بخيرٍ إلى يوم الدين لأن دين الله الخاتم واحد وأوامره ونواهيه واحدة هي ذاتها لا تتغير ولا تتبدل بتغير وتبدل الزمان والمكان لذا تكون النتائج هي ذاتها كذلك.
علينا أن ننظر ونتمحص في نتائج الخروج وعواقبه منذ أول خروج على الحاكم في تاريخ الإسلام، منذ فتنة الخليفة الراشد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وبعدها فتنة الخليفة الراشد سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه والفتن التي بعده، مروراً ببني أمية وبني العباس ثم من بعدهم حقب وأزمان حتى نصل إلى ما عرف بثورات الربيع العربي (ارحل) ومن ثم (تسقط بس) في السودان التي انتهت بتغيير حكم الرئيس البشير والتي أدخلت السودان في نفق مظلم لم يخرج منه حتى الآن. ثم تنتهي بآخر خروج على البرهان نفسه الآن ومحاولات خلعه وإقصائه (يسقط يسقط حكم العسكر ، حكم العسكر ما بشكر).
ولأن الله واحد ودينه واحد وأمره ونهيه واحد منذ الأزل إلى يوم الزوال نجد أن لوازم الخروج على الحاكم ونتائجه هي ذات النتائج والمترتبات على أي خروج حدث في أي زمان وأي مكان. وأي خروج سيأتي إلى يوم الدين ستكون نتائجه هي ذات النتائج والأدهى والأمر أن أول خروج حدث على سيدنا عثمان وحتى اليوم على البرهان هذا الخروج فكرته واحدة وعقيدته واحدة ونتائجه واحدة ورائده ومؤسسه واحد (هو الخارج اليهودي عبد الله بن سبأ) والذين يقومون به الآن هم ذات القوم – الخوارج – منذ ذلك الزمان وحتى الآن، أليس هذا كله أمر يدعو للإيقان واليقين والإيمان بأن دين الله ثابت لا يتغير ولا يتبدل وأمره ونهيه هو ذاته وطاعته ومعصيته هي ذاتها.
الله قيوم السموات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن له الخلق والأمر من قبل ومن بعد وله الحكم ولا يشرك في حكمه أحداً وإليه ترجعون. دين الله واحد وشامل صالح لكل زمان ومكان ولا يقبل التجزئة فنأخذ منه ما نريد ونترك ما نريد هذا من باب الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، وهذا يُخرج الناس من ملة الإسلام إلى ملة الكفر، فلو كان للإيمان مائة أصل وآمن الناس بتسعة وتسعين أصلاً منها وكفروا بأصل واحد من أصول الدين فهذا كفر بالدين كله.
ومن لوازم الخروج الأكيدة ومترتباته ونتائجة المضمونة والثابتة والتي لا يعتبر بها الناس في كل زمان ومكان هي الفشل والخيبة وكثرة المنكر والفساد ونقصان المعروف والإصلاح، فلا مصلحة جُلبت ولا مفسدة دُفعت، لأن الأمر برمته مخالفة وعصيان لأمر الله ورسوله فكيف لا تكون هذه نتيجته الحتمية.
الخروج لا يأتي بخير أو إصلاح البتة ومن أين له بالخير والإصلاح ورأس الأمر فيه ومنشأه وأسه ومؤسسه هو اليهودي المنافق الزنديق المارق الملعون الخارج عدو الله ورسوله والمؤمنين عبد الله بن سبأ، بل من نتائج الخروج الأكيدة ومرتباته المضمونة كل المفاسد والشرور. كيف لا تكون هذه هي النتائج الحتمية للخروج وأمر الخروج يناهض ويقاوم ويرد أمر الله سبحانه وتعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فماذا نتوقع أن تكون النتائج، وهذا ظاهر اليوم للعيان ولا تخطئه العين ومن يقول بغير ذلك فهو مكابر أعمى البصيرة أعمى البصر ولكن لا تعمى الأبصار وتعمى القلوب التي في الصدور حتى لا ترى الحق وتشاهده فالعقائد الفاسدة تعمي بصيرة القلب فيتبعها البصر فلا يرى الحق ولا يشاهده. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلبها أنى شاء.
- أولى النتائج وأهمها معصية الله ورسوله وذلك بعصيان ورد أوامر الله ورسوله بترك الأمر وفعل النهي ترك الطاعة وفعل المعصية فيحدث سخط الله وغضبه وينزل عقابه الدنيوي ويبقى عقابه الأخروى.
- فقدان الأمن والطمأنينة فإذا ذهب الأمن ذهب معه كل شئ، ذهب الخير كله وأقبل الشر كله، فالأمن واستقراره هو أس وأساس كل أمور حياة البلاد والعباد ، به يُعبد الله ويُتقى، وبه يُطلب الرزق ، وبه يتواصل الخلق ، وبه تأمن الطرق، وبه يتحقق النماء والرخاء، وبه يُصد الأعداء، وبه يخاف المتآمرون على البلاد، دينها ومقدَّراتها وإمكانياتها. فالنِعم المترتبة على الأمن واستقراره نُعم كثيرة وضرورية ومطلوبة حتماً.
فالأمن نعمة جليلة من نعم الله سبحانه وتعالى على عباده، فالإنسان يصبر على الجوع لكنه لا يصبر على الخوف وعدم الطمأنينة، فكل ما يزعزع الأمن ويُذهب الطمأنينة يكون ضد الشرع فمن مقاصد الدين اطمئنان القلوب وسكينة النفوس وراحة الأبدان لعبادة الرحمن.
لذا نجد أن سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما دعا ربه: (ربي اجعل هذا البلد آمناً وأرزق أهله من الثمرات) فطلب سيدنا إبراهيم في دعائه ربه، طلب الأمن قبل الرزق وهذا دليل على أن الأمن مقدم على كل شيء وأولوية قصوى، فهل من مدكر.
- تعم الفوضى ويحصل الخراب.
- تهدر الحقوق العامة والخاصة.
- تضيع المصالح العامة والخاصة.
- يكثر السلب والنهب والرعب والخوف.
- تُزهق الأنفس والأرواح وتُراق الدماء وتُنتهك الحرمات وتذهب السكينة والطمأنينة.
- تتحكم الأهواء ويتجاوز الناس الحدود الشرعية ويتخطون الضوابط المرعية.
- يتطاول السفهاء ويتسيّد الرجرجة والدهماء فيقل الأدب والاحترام والانضباط.
- يتراجع القانون فتضيع هيبة الدولة ويضيع معها وجود البلاد وراحة العباد ويتفرق الشمل.
- بكل هذا ينتصر الشيطان وأولياؤه الخوارج وأولياؤهم ومن شايعهم ورأى رأيهم من أدعياء السلفية.
وهذا كله وغيره ما كان يرجوه ويأمل فيه رأس الفتنة ومؤسس الفساد ومفرق الأمة حادي ركب الشيطان والخروج المنافق عبد الله بن سبأ.
فالخارجون اليوم هم سبئية أحفاد وأتباع وأعوان اليهودي المنافق الخارج عبد الله بن سبأ وصنوه المنافق الخارج ذو الخويصرة التميمي، هم سبيئة قولاً وفعلاً علم هؤلاء القوم أمرهم هذا أم جهلوا ذلك، ولا عذر بالجهل.
فمن أوجبِ الواجب السمع والطاعة لولي الأمر الحاكم ومن أبطلِ الباطل الخروج عليه وعصيانه. فنجد من الناس طائفة وفرقة سلكوا طريق الضلال والغي وأخذوا يجادلون بالباطل الحق يريدون إحقاق الباطل وإبطال الحق وهم في غاية الجهل، وغاية ما عندهم تقليد أئمة الضلال وتباع كل شيطان مريد واتباع الهوى قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}. الجاثية:23. فهو متمرد على الله وعلى رسوله ومعاند لهم وأصبح من الأئمة الذين يدعون إلى النار ذلك هو اليهودي المنافق عبد الله بن سبأ وأتباعه ومناصروه فإن من تولاه يضله عن الحق ويجنبه الصراط المستقيم يضل هو نفسه ويتصدى لإضلال الآخرين.
فأقوال هؤلاء وأفعالهم ترغب الناس في الكفر والفسوق والعصيان ليدحضوا بذلك الحق ويدفعوا به الباطل فبعد ما ضل هؤلاء بأقوالهم وأفعالهم أضلوا غيرهم عن الحق القويم والصراط المستقيم. ولا يتم لهم ذلك حتى يقدحوا في الهدى والحق ويتخذوا آيات الله هزواً ويسخروا بها وبأهلها. فجمعوا بين مدح الباطل والترغيب فيه والقدح في الحق والترهيب عنه وبذلك يضلون غيرهم مما لا علم عندهم وهم جاهلون ويخدعونهم بأقوالهم وأفعالهم هذه، وهؤلاء لا يقبلون الهداية لأنهم اتبعوا الشيطان وفي آذانهم وقرٌ وصممٌ يجعلهم لا يسمعون الحق ولا به يهتدون فهؤلاء بشرهم الله بالعذاب الأليم.
فشيخ هؤلاء القوم هو إبليس قال تعالى في سورة يس: (أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَيۡكُمۡ يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ أَن ألَا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِين). يس [60]
والمعنى أن لا تطيعوا الشيطان بترك ما أمر الله به من طاعته وترك ما نه عنه من معصيته ، فهذا يعتبر طاعة للشيطان وعبادة له وقد حذرنا الله غاية التحذير من طاعة الشيطان ومعصية الرحمن، وأن لا نتخذ الشيطان أعدى الأعداء ولياً من دون الله، فإذا أطاع العباد الشيطان وجعلوه ولياً لهم وعصوا الرحمن وهو وليهم الحق، فقد حق عليهم القول بالعذاب وعذاب الله أشد وأنكى يوم يُأمر بهم إلى نار جهنم إن عذاب جهنم كان غراماً إنها ساءت مستقراً ومقاماً وساءت مصيراً، وعدم علمهم وجهلهم ليس مأخوذاً به عند الله ولا معتبراً في الشرع.
أقوال أهل العلم المعاصرين في المظاهرات
لم يوجد في كتب السلف والأئمة السابقين أي إشارة أو حديث عن المظاهرات وأشباهها لأنها لم تكن معهودة ولا معلومة في ذلك الزمان وهذا أكبر شاهد على أنها بدعة جديدة فمن لم يكن ديناً في ذلك الزمان لا يمكن أن يكون ديناً في هذا الزمان لذا نجد أن كل الذين أفتوا بحرمة المظاهرات هم من أهل العلم المعاصرين.
- قال الإمام ابن باز رحمه الله : (ما قد يفعله بعض الناس من المظاهرات يسبب شراً عظيماً لأن المسيرات في الشوارع والهتافات ليست هي الطريقة الشرعية للإصلاح وطريقة الإصلاح معلومة في الشرع حتى صار كل فرد لا يعجبه شيء يتظاهر أو يعتصم لأجل إزالته وهذا بسبب انتشار ثقافة الثورة والعصيان والخروج ولا شك أن هذا الأسلوب يضر البلاد والعباد ويحمل الحكام على معاداتها وصدها بكل الأساليب).
- قال الإمام الألباني رحمة الله: (المظاهرات من عادات الكفار وأساليبهم التي تتناسب مع زعمهم أن الحكم للشعب وتتنافى مع قوله صلى الله عليه وسلم أن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) .
- يقول الإمام ابن عثيمين : (عليكم باتباع السلف فإن كان أمر المظاهرات هذا موجوداً عند السلف فهو خير وإن لم يكن موجوداً فهو شر ولا شك أن المظاهرات شر ولا يعرفها السلف تؤدي إلى الفوضى من المتظاهرين ويحصل فيها اعتداء على الأعراض والأموال والأبدان وكذلك التخريب فالمظاهرات كلها شر فالشرع مع الخير وضد الشر).
- سُئل الإمام مقبل الوادعي رحمه الله: ما حكم الشرع في الاضرابات والمسيرات والمظاهرات؟ فأجاب : ( الحكم في هذا أنه تقليد لأعداء الإسلام وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن؟). أما الاضراب عن العمل بأن يقرر عدم العمل في ذلك اليوم فهذا ليس بمشروع).
- سُئل العلامة صالح الفوزان، هنالك من يرى إذا كان هنالك إشكال يدعو إلى الاعتصامات والمظاهرات ضد الحكام حتى يستجيبوا تحت هذا الضغط فما رأيكم في هذه الوسيلة؟ فأجاب: ( الضرر لا يُزال بضرر فليس الحل أن تكون مظاهرات أو اعتصامات أو تخريب هذا ليس حلا هذا زيادة شر والشر منهي عنه شرعاً لكن الحل مراجعة حكام المسلمين ومناصحتهم وبيان الواجب عليهم لعلهم يزيلون هذا الضرر فإن أزالوه فبها ونعمت وإلا وجب الصبر عليه تفادياً لضرر أعظم منه. فالمظاهرات هذه ليست من أعمال المسلمين فهي دخيلة ما كانت معروفة إلا عند الدول الغربية الكافرة فلا يقرها الشرع).
- قال العلامة صالح السحيمي : (الدخول في هذه المظاهرات أو الإضرابات مهما كان الحاكم ظالماً هذا العمل غير صحيح ويُمكّن لأعداء المسلمين من الدخول في صفوف المسلمين. ومهما كانت المظالم ومهما كانت الأمور فإن ذلك لا يقره الشرع).
- قال العلامة أحمد بن يحيى: (المسيرات والتظاهرات، الإسلام لا يعترف بهذا الصنيع ولا يقره بل هو مُحدث ومن عمل الكفار لقد انتقل من عندهم إلينا أوَكلما عمل الكفار عملا جاريناهم فيه وتابعناهم عليه؟!).
- قال العلامة عبد المحسن العباد:(لا يخفى أن هذه المظاهرات التي يصاحبها اختلال في الأمن وحصول مفاسد وفوضى يترتب عليها سلب ونهب وسفك دماء وأقل أضرارها التضييق على الناس في طرقاتهم وحصول الرعب للآمنين فهذا مما لا يقره الشرع).
- وكتب العلامة ربيع المدخلي: ( المظاهرات فيها كثير من الفساد والإفساد ولا يجوز ذلك وتصادم توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره بطاعة ولي الأمر الحاكم. المظاهرات من الأمور المحدثة فكل أمر محدث فهو بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ذلك أن شرع الله كامل كتابا وسنة ولا نعرف في شيء من أدلة الكتاب والسنة تبيح للناس أن يجتمعوا ويقوموا بالمظاهرات والتي ربما يحصل فيها القتل فلو قتل في المظاهرة الواحدة مسلم واحد يتحمل إثمه من دعا إلى القيام بهذه المظاهرة. فأغلب الذين يخرجون في المظاهرات تجدهم غير ملتزمين بآداب وأحكام الإسلام فهذا يدمر وهذا يضرب وهذا يحرق وهذا يسرق وهذا يقتل إلى غير ذلك من المساوئ والمفاسد).
كانت تلك أقوال العلماء المعاصرين لأن بدعة المظاهرات بدعة جديدة فنجد أن كتب السلف جميعها لم تذكرها لأنهم لا عهد لهم بها وهذا يكفي المظاهرات باطلاً وأنها بدعة أن السلف لم يسمعوا بها ولا يعرفونها ولم يكتبوا عنها فهي ليست من الدين في شيء ومن لم يكن ديناً في ذلك الزمان لا يمكن أن يكون ديناً في هذا الزمان.
ونقول إنه لا تخلو مظاهرة واحدة من المعاصي والفجور وسفك الدماء وتعطيل المصالح العامة والخاصة بدليل الواقع اليوم فنقول هنا قولاً واحداً لا تردد في تحريم المظاهرات لأن كل ما ذكر من المفاسد والشرور والفتن حذرت منه النصوص الشرعية وأمرت بمجانبته وعدم القيام به وقد اتضح هذا من أقوال أهل العلم المعاصرين.
وهذا واضح في بيان مخالفة الخروج والثورات والتظاهر والعصيان لأوامر الله سبحانه وتعالى ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح، فالسلف الصالح قد عانى أشد مما نعانيه الآن ومعاناتهم كانت في أمور تتعلق بالدين والعقيدة لا الدنيا في عهد الحجاج والواثق، أمور ارتبطت بعقيدة الأمة وشرع الله فلم يفزعوا إلى السيف ولا إلى الثورات أو المظاهرات بل تمسكوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر والتضرع والدعاء وعدم الخروج أو التظاهر أو الثورة.
القوم اليوم يقولون إن الثورة خيار الشعب والثورة مستمرة فياليت قومي يعلمون وإلى الرشد يهتدون وإلى الحق هم ينظرون.
منهج أهل السنة والجماعة ومع أن هذا المنهج الصحيح – الطيب المبارك– منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف الأمة مع أنه هو الواجب في الإصلاح والتغيير ولا مفاسد فيه البتة وعاقبته ونتائجه كلها خير وبركة ومنفعة، فالإعراض عنه إلى هذه المناهج المخالفة للشرع والمضادة للدين بمفاسدها وشرورها فهذا يعتبر انسلاخا من العقل السليم والفطرة السوية قبل أن يكون انسلاخاً من الدين الحنيف.
فعلى أهل الرشد من هذه الأمة أن يبذلوا قصارى جهدهم في تصحيح هذا المسار المنحرف وتعديل وجهته بما يوافق أحكام الشرع ويحقق المصالح العامة فلا يسوغ لنا أن ندس ونواري هويتنا الإسلامية في غمرة هذه الأحداث ولا أن يغيب الخطاب الإسلامي الشرعي المنزّل ولا توعية وتبصير الناس بالحق المبين لأجل أن نجامل واقعاً متردياً وباطلاً متفشياً أو انحرافاً عن الجادة أو خوفاً من قوى أجنبية.
واعلم أيها الثأئر المتظاهر -هداك الله إلى الحق وأرشدك إلى الصواب وجنبك الزلل- . أن المظاهرات وشرورها لا تؤدي الى أي مصلحة معتبرة وواقع اليوم خير شاهد على ذلك فمنذ أن جاءت هذه الثورة المشؤومة ما الذي حصل؟ لم نجنِ سوى مفاسد المظاهرات وشرورها فالبلاد والعباد لم ينالوا خيراً قط فلم يستقر الحال ولم تحقق الثورة من خلال ذلك أي مصلحة معتبرة لا في الدين ولا في الدنيا بل صرنا الى مجهول ولعلنا الآن نتحسر على الأيام الخوالي وقد قال الإمام الشعبي رحمه الله: (ما بكيت من زمانٍ إلا بكيت عليه). وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه). رواه البخاري. فكل عام ترذلون، فكل من يؤمل الخير في الفتن والفساد والشرور فهذا عديم عقل، عديم إيمان بالشرع.
فإن الشرع لا يأمر إلا بما كانت مصلحته خالصة أو راجحة ولا ينهى إلا عن ما كانت مفسدته خالصة أو راجحة، ولهذا كان النهي الشرعي عن الخروج والثورات والمظاهرات وما تنطوي عليه من الفتن والشرور في أمور الدنيا والدين فلو كانت مصلحتها راجحة على مفسدتها لما نهى الشرع عنها. فقد استقر الشرع على التحذير والنهي عن الفتن والمنكرات والشرور فالحق لا اختلاف فيه ولا تناقض إنما الاختلاف والتناقض من أظهر سمات الباطل.
فإن الأمر خطير جداً وما هو بالهزل ولا باليسير، إنها عقيدة أمة ودين ملة ومقدرات ومكتسبات بلد ودماء شعوب ومصائر أجيال فإذا تُرك كل هذا لأمثال هؤلاء فحدِّث عن ضياع الوطن والأمة والدين والدنيا على السواء.
فيا أهل السودان من ذوي العقول والنُهى من المسلمين والمسلمات يجب أن نقول هذا ونعترف به ونعرفه ونلتزم به إن كنا للحق طالبين ولاتباع سبيل المؤمنين قاصدين وعلى مصالح البلاد والعباد حريصين وللطاعة فاعلين وللمعصية تاركين.
هم يقولون: (حكم العسكر ما بتشكر) ونحن نقول: (حكم العسكر هو البتشكر) هذا السودان لا يحكمه إلا العسكر ولا ينميه إلا العسكر ولا يضبطه إلا العسكر ومنذ الاستقلال وحتى اليوم لم يقم أي مشروع تنموي، كبيراً كان أو صغيراً، أو أي تقدم في كل المجالات إلا في ظل قيادة رئيس عسكري، هذه هي الحقيقة التي لا يقبلها إلا كل صادق ومتجرِّد ثم ماذا قدمت أي حكومة مدنية لصالح الوطن والمواطن غير المطالبة بالتعويضات واسترداد الممتلكات والأصول والمحسوبية والولاءات الحزبية والتنافس على الكيد والمكايدات السياسية والخلافات الحزبية والتآمر الداخلي والتخابر الخارجي وكشف ظهر القوات المسلحة، حامي الحمى وأسد العرين، القوات المسلحة هي الوطنية والوطن، هم حراس الدين وحماة العقيدة- وذاكرة التاريخ تقول وتذكر ما حدث للقوات المسلحة من المهانة والامتهان حدَّاً بلغ درجة العجز التام عن الوفاء وتوفير ضرورات مطلوبات الجيش من السلاح والمأكل والملبس والحذاء، فالتنمية والنماء وصيانة أرض وعرض وحفظ الوطن بحدوده وإمكانياته وقيام هيبة الدولة وسيادة حكم القانون، هذه كلها ذات علاقة طردية في ظل وجود الحاكم العسكري (هيبة وجبرة)، وعكسها تماماً في ظل الحاكم المدني تكون العلاقة عكسية مع كل هذا وذاك.
المطالبون اليوم بالحكم المدني هم الذين أتوا بانقلاب مايو (انت يا مايو الخلاص يا جداراً من رصاص)، (يا حارسنا ويا فارسنا ويا بيتنا ومدارسنا لينا زمن نفتش ليك وجيتنا الليلة).
نقول هذا من باب تذكير الناس بحقائق التاريخ بعيداً كان أو قريباً وتجارب الحكم في السودان بين العسكري منها والمدني، وهذا الأمر ليس في السودان فقط بل أغلب دول العالم الغربي والعربي والإفريقي والإسلامي هي هكذا، ونقول: من هو صدام حسين؟ عسكري. من هو جمال عبد الناصر؟ عسكري. من هو السادات؟ عسكري. من هو حسني مبارك؟ عسكري. من هو السيسي الآن؟ عسكري. من هو القذافي؟ عسكري. من هو علي عبد الله صالح؟ عسكري. من هو هتلر؟ عسكري. من هو نابليون؟ عسكري. من هو موسيليني؟ عسكري. من هو سوهارتو؟ عسكري. من هو بوكاسا؟ عسكري. من هو ديغول؟ عسكري. من هو جورج واشنطن؟ عسكري. من هو وايزنهاور؟ عسكري. من هو الملك عبد الله؟ عسكري. من هو ضياء الحق؟ عسكري. من هو برويز مشرف؟ عسكري. وغيرهم كثير جداً. ونجد كذلك أن الرؤساء الذين تعاقبوا على رئاسة الإدارة الأمريكية نفسها منهم تقريباً 29 عسكرياً، وفي السودان من هو عبود؟ عسكري. من هو نميري؟ عسكري. من هو البشير؟ عسكري، من هو البرهان الآن؟ عسكري. فهؤلاء الرؤساء العساكر بكل ما كان لديهم من مساوئ ومخازي لكنهم كانوا الأجدر بالحكم والأقوى في السلطة والأفيد في البناء والتعمير وقيادة البلاد وجميعهم قد تركوا بصمات واضحة وأسماء مذكورة ومركوزة في ذاكرة التاريخ بخيرها وشرها وبصرف النظر عن القبول والرفض لهم ولسياساتهم فقد كانوا قادة أفذاذاً ورؤساء كباراً يعرفهم كل العالم فضلاً عن شعوب بلادهم.
فنبتت نابتة من الشباب اليوم لا تعرف التاريخ وتجهل الشرع، فالمدنية التي ينادون بها هي العلمانية ولكن لا يصرحون بذلك لعلمهم بأن هذا الشعب شعب مسلم لا يقبل العلمانية حكماً ولا يدين بها، العلمانية التي تعني فصل الدين عن الدولة، فالذين ينعقون ويرددون (مدنياااو) يهرفون بما لا يعلمون، هؤلاء الناعقون يقصدون المدنية التي هي ضد العسكرية لكن أهل الشأن والقصد منهم يقصدون المدنية التي هي العلمانية والتي فيها (ما لله لله وما لقيصر لقيصر).
الحكم المدني ولو سلمنا جدلاً أنه صالح ومطلوب فإنه يتطلب أمة ومجتمعاً غير مجتمعات اليوم من دول العالم الثالث، ونجد أن المجتمع إذا صلح نهض وإذا فسد تخلف فلا نهضة مع الفساد ولا تخلف مع الإصلاح ولذا نجد أن عوامل الإصلاح هي ذاتها تشكل مقومات النهضة والنصر والانتصار مع عوامل أخرى تتضافر كلها لتكون الناتج صلاح المجتمع وبالتالي نهضته ومن ثم انتصاره على أعدائه، ومع التسليم بصلاح نظام الحكم المدني فهو يحتاج إلى مجتمع وأمة تقدِّر وتحترم النظام وتطبق القانون وتحترم الوقت وتلتزم الانضباط وتعرف الحقوق والواجبات والأخذ والعطاء ما لها وما عليها، وغير هذا كثير، فأين نحن الآن من كل هذا فبيننا وبينه بُعد المشرق والمغرب وواقع اليوم وفي حالة التسليم لصلاحية الحكم المدني يتناقض تناقضاً تاماً مع قول القوم: (مدنياااو) ونحن نقول على ذات النسق: (عسكرياااااو) فحسبنا الله ونعم الوكيل.
نقول كل هذا من باب إحقاق الحق وإنصاف الحكم العسكري الذي تعاقب على حكم السودان ونجد أن كل مشاريع التنمية الكبيرة التي قامت في السودان من غير تفصيل أنها أنشئت في ظل قيادة حاكم عسكري لذا نقول ويقول معنا الصادقون المنصفون والمعترفون بالحقيقة إن العلاقة بين التنمية والحاكم العسكري علاقة طردية بخلاف الحكم المدني فالعلاقة بين الحكم المدني والتنمية علاقة عكسية فهذا من باب رد الفضل إلى أهله تحيةً وعرفاناً وولاء للقوات المسلحة وشدَّاً من أزرها ومناصرة لها ومنعاً كذلك للكذب والتضليل والتدليس على الأمة في شأن العكسر وحكمهم وأي حديث سالب أو أي إساءة للقوات المسلحة وقادتها هذه خيانة عظمى للوطن والمواطن وعمالة رخيصة مدفوعة الثمن تقتضي الردع وتوجب المساءلة والمحاكمة ونحن نقول إن عين الجيش باصرة وترى وأن يده طويلة ورجله ممتدة لكنها الحكمة والصبر والمصابرة والبصر والبصيرة.
فلابد لهذه البلاد من رئيس قائد فحتماً وبالضرورة أن يكون رجلاً عسكرياً قُحَّاً تخرج في الكلية الحربية لا غيرها، ويكون رجلاً قاهراً مهاب الجانب مسموع الكلمة واسمه الرئيس القائد لمزيد من الهيبة له والرهبة منه والرغبة إليه.
أما بقية هياكل الحكم ومواقع المسؤولية على كل مستوياتها فيمكن الأخذ والرد في شأنها، وآمل أن تدار بلادنا هذه بالعسكر من رأسها إلى أخمص قدميها وهذا يمثل رأيي الخاص ورغبتي الشخصية لأجل مصلحة البلاد والعباد والوطن والأمة. ضرورة قيام مؤتمر علمي شرعي يؤصل لشئون الحكم والحاكمية
وهنا نؤكد على ضرورة قيام مؤتمر علمي شرعي متخصص يُعنى بدراسة ومناقشة وإقرار قضية الحكم والحاكمية والسلطة والسلطان في السودان ليتم من خلال ذلك التأصيل لهذا الأمر بتوضيح الموقف الشرعي والحكم الرباني والهدي النبوي والرأي الصحيح، رجوعاً لما قال الله تعالى وقال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن ومن بعدهما ما فهمه السلف الصالح لهذه الأمة ومواقفهم وممارساتهم وتطبيقهم لهذا الشأن وكيفية معاملتهم للحاكم ولي الأمر وللسلطان صاحب السلطة.
يقوم هذا المؤتمر وتكون عضويته من المختصين في العلوم الشرعية والعلماء والدعاة الربانيين وكل الصادقين والمخلصين والغيورين على أمر الدين وصلاح الدنيا واستقرار البلاد وسعادة العباد ليردوا كل الأمر إلى الله فإليه يرجع الأمر كله وبذلك يردون الأمر إلى رشده والوضع إلى صوابه.
في هذا السودان العجيب قامت مؤتمرات كثيفة وصرفت عليها أموال طائلة وأهدر فيها زمن غالٍ، كلها كانت أموراً ضرورية في كل شؤون الحياة الدنيا إلا هذا الشأن تأصيل أمر الحكم وشؤون الحاكمية ومكانة ولي الأمر الحاكم في الإسلام برغم أهميته الشرعية في الدين والدنيا، وهذا الأمر مقدم على كل ما تمت مناقشته وإقراره في مؤتمرات سابقة لأن شأن الحكم والحاكمية هو رأس الأمر وأس التكليف، عليه وبه ينصلح حال الدين والدنيا والآخرة والبلاد والعباد. وبعدمه يحل الفساد في الدين والدنيا والآخرة ويعم البلاد والعباد. وأحسب وأظن أن عدم قيام مؤتمر في هذا الجانب كان أمراً مقصوداً لأن أمراً بهذه الدرجة من الأهمية لا يمكن نسيانه أو إهماله، لذا نقول إنه كان مقصوداً من القائمين على أمر البلاد أو أعداء البلاد، لأنه بقيام هذا المؤتمر سيتم رد الأمور إلى الله وهذا أمر غير مرغوب فيه فإلى الله المشتكى وعليه قصد السبيل. فالشئ المدهش أن هذا الأمر وغض الطرف عنه من قبل الحاكم أمر يناقض ضرورة أن يتولى الحاكم هذا الأمر، لأن أصول الدين وثوابت العقيدة والشرع والشريعة تناصر الحاكم وتؤيد السلطان وتشدُّ من أزره وتؤمِّن ظهره وتقوي شوكته وتفرض على العباد فرضاً عينياً طاعته والإذعان له وتحرم على العباد عصيانه والخروج عليه أو سبه وشتمه وتأمر بالدعاء له بالصلاح والنصرة، فبرغم هذا التأييد والنصرة والمؤازرة والإسناد من ناحية الدين لأمر الحاكم والحكم، أليس أمراً مدهشاً أن نجد الحاكم وأهل الحكم لا يحرصون على إقرار هذا الأمر بل ربما لا يرغبون فيه بل ربما يعادونه ويقفون ضده فالعجب كل العجب كيف يأبى ويرفض الانسان أمراً ينصره ويؤيده ويفرض على الناس طاعته ويحرِّم عليهم معصيته فكيف يستقيم هذا الأمر عقلاً ومنطقاً ورُشداً؟ ولكنه الشيطان عدو الرحمن وعدو المؤمنين. فالشيطان للإنسان عدو مبين وبهذا يصير الإنسان عدواً لنفسه يعادي ويحارب صليحه وهو الدين ويوالي ويناصر عدوه وهو محاربة الدين ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً وهذا هو الخسران الأكبر والخذلان الأتم ونعوذ بالله من الخسران والخذلان ومن مكائد ومصائد الشيطان.
ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. أي من ينصر دينه فالله قوي وقاهر على خلقه عزيز منيع في سلطانه وقدرته.
فشأن السلطة والسلطان يأتي على رأس أولويات أصول الدين وثوابت العقيدة وهذه هي مسؤولية أهل العلم الشرعي الصحيح كتاباً وسنة وفهم عقيدة سلف الأمة الصالح لهذا الأمر وعلى العباد معرفة ذلك والعلم به والعمل على تطبيقه والالتزام به وعدم تعديه أو التعدي عليه لأنه من التعدي على حدود الله ومحارمه وواجب أهل العلم الشرعي الصحيح توعية وتبصير الناس حاكمين ومحكومين وتبيين هذا الأمر لهم وأن يتركوا التقصير والتفريط في هذا الجانب ويستغفروا الله ربهم من ذلك عسى الله أن يغفر لهم ويتوب عليهم فبانتظام أمر الحكم والحاكمية ينتظم ويستقيم أمر الدين كله والدنيا كلها ويستقر حال البلاد والعباد، وهنا نقول إن مسؤولية أهل العلم الشرعي الصحيح كبيرة وشاقة وكتمان العلم معصية عظيمة وجريمة نكراء وعيب كبير وخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.
وكل هذا يندرج تحت شأن التبصير بالحق والتنوير بالشر في كل أمور حياة الناس وعلى رأسها كما ذكرنا تأتي شؤون الحكم وأمر الحاكمية.
مبادرات العباد للحل وجمع الشمل
نحن نقول إن المبادرة الأصل هي مبادرة رب العباد ورسوله من قبل مبادرات العباد فالحل وجمع الشمل بكامله في صلب ومن صميم دين الإسلام، فأي مبادرة لا ترد الأمر برمته إلى الله ورسوله لا تُوجِد حلاً ولا تجمع شملاً ولا تعدو أن تكون مجرد استهلاك سياسي ومماحكة فارغة المحتوى وخالية المضمون، وما هي إلا مكاسب وأغراض شخصية أو حزبية أو دنيوية، فيكون هؤلاء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً فكل حزب بما لديهم فرحون وكان الانسان أكثر شئ جدلا ومغالطة، ولا يكادون يفقهون قولا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا، فأي مبادرة لا ترجو لله تعالى وقاراً ولا تقيم لدينه وزناً، أي لا تكون مرجعيتها الكتاب والسنة، فهي مبادرة مخذولة ولن تكون منصورة لأنها مبادرة (فشنك وفالصو وكيسها فاضي) ولا يرجى منها خيرٌ البتة، فأي أمر وشأن لا يرتكز وينطلق من كتاب الله القرآن الكريم وسنة نبيه المطهرة ويسلك سبيل المؤمنين فهو داحض ومُنْبَتٌّ ومنقطع ومخذول ولينصرن الله من ينصره إن الله لقويٌّ عزيز. فدين الله كتابا وسنة هو الحل وكل شئ ما خلا اللهَ باطل، فيجب على الحاكم والسلطان ألا يُضيَّع زمن البلاد والعباد فيما لا طائل من ورائه ولا ثمرة ترجى منه، فرد الامور الى الله ورسوله هو السبيل الوحيد ولا سبيل سواه البتة فوربُّ الكعبة رب العرش العظيم رب كل شئ ومليكه ومدبره، بيده ملكوت كل شئ، يجير ولا يجار عليه، مالك الملك الملك الديان، لا ولن تصل كل هذه المبادرات إلى أي حل ولو كان جزئيا ما لم تتم العودة إلى الله ورسوله إخلاصا لله تعالى واتباعا لسنة نبيِّه عليه الصلاة والسلام، وأن يكون في الأمة رجال راشدون من أهل الفطنة والكياسة والحكمة والتقوى والخشية، فالله أحق أن نخشاه، ومن أهل الأمانة والقوة ومن الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا في الحق ثناء شاكر، فأمور العباد في شأن الدين والدنيا والآخرة من الله وعلى الله وإلى الله، فبأي حديث بعد الله ورسوله يؤمن الناس، فإذا كان العباد يريدون الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنين أجراً عظيماً.
فأي مبادرة للحل لا تعمل لأجل الدنيا والآخرة معاً فهي باطلة ومردودة ولا ثمرة لها في الدنيا والآخرة فعلى العباد التزام ولزوم هذا الأمر بالكيفية التي جاء بها شرعة ومنهاجاً، أمراً ونهياً، وأن لا يفارق العباد ذلك قيد أنملة بالتعدي على حدود الله وتخطي محارمه ومن فعل ذلك فقد ضل الطريق وفارق الجادة وتنكب الهدي وترك سبيل المؤمنين ومن يفعل ذلك يلقى أثاماً، ومن كل ما ذكر سابقا يجب وجوبا حتميا على أهل العلم الشرعي من علماء أهل السنة والجماعة القيام بتقديم مبادرة ربانية خالصة لإصلاح شأن الأمة في كل شؤون حياة العباد مبادرة لا تعرف غير الكتاب والسنة مصدرا ومرجعا، مبادرة ترد كل الأمر إلى الله ورسوله، مبادرة لا تحتكم ولا تتحاكم إلا إلى الله ورسوله ولا تأتمر إلا بأمرهما ولا تنتهي إلا بما نهيا عنه ولا تتبع إلا سبيل المؤمنين.
فكل قضايا ومشاكل الحياة الدنيا ومنها الاختلاف والتنازع والتفرق والتشاكس وكل أمر وشأن، هذه كلها حلها وحلولها في كتاب الله وسنة نبيه لأن الله سبحانه وتعالى لم يفرط في الكتاب من شئ فما على الأمة والعباد إلا أن يسلكوا طريق الأوبة والعودة والرجوع إلى الله بالاحتكام الى كتابه القرآن الكريم والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم بتطبيق سنته في كل شؤون حياة العباد الخاصة بالفرد والجماعة، والعامة في المجتمع. فقد جربت الأمة السودانية ومارست وسكلت كل دروب وطرق البحث عن الحلول لمشاكل البلاد والعمل على تطورها ورقيها وتقدمها فلم تصل الأمة حتى اليوم وإلى يوم الدين إلى هذا المطلوب ما لم تسلك المسلك الصحيح بالمنهج الرباني والهدي النبوي. فما بال أهل هذه البلاد حكاماً ومحكومين ماذا دهاهم؟! وما أصابهم؟! ألا يفقهون حديثا ولا يستمعون قولا فمن أحسن من الله حديثا؟ ومن أحسن الله قيلا ومن أحسن من الله حكما؟ فمن؟ ثم من؟! فعلينا نحن أمة الإسلام في السودان أن نحاول الاحتكام الى الله ورسوله احتكاما صحيحا كما جاء في دين الله وشرعه ومنهاجه بالإسلام الصحيح والدين الحق وليس الاسلام الذي يخلط ويمازج بين الحق والباطل ويجمع بين السنة والبدعة ويمارس المعروف والمنكر ويأتي الطاعة ويرتكب المعصية وبالتالي يجمع ويزاوج بين المتناقضات وكل نقيضين فهذا ليس هو دين الاسلام ولا ولن يكون الدين هكذا فالإسلام من هذا براء ويأبى الله ورسوله والمؤمنون أن يكون دين الاسلام هكذا فإذا أراد العباد خيرا في الدنيا والآخرة فعليهم أن يتوبوا ويتبرأوا من هذا الاسلام الذي يمارسونه، فالاسلام غاية ووسيلة وليس وسيلة فقط وليس هو جواد يمتطى ظهره ليبلغ به كل أحد غايته ويحقق به أهدافه فحاشى وكلا أن يكون الاسلام هكذا فلا يصح ولا يعقل البتة أن ينسب اسلام مثل هذا الى الله ورسوله، فحاشى لله وحاشى لرسوله أن يكون هذا دينهما ودين كل الانبياء والمرسلين.
على الأمة السودانية اليوم أن تجرب ممارسة وتطبيق الاسلام الحق، الاسلام الصحيح وليأخذ فرصته كاملة غير منقوصة فستكون النتائج حتما كلها خير وبركة ونعمة ويسر لأن هذا هو وعد الله ولا يخلف الله وعده، فهذا الاسلام قد حكم من قبل مشارق الارض ومغاربها وسيحكم الارض من بعد بإذن الله ووعده فالاسلام الصحيح قادم وعائد فعلى أهل السودان أن يكونوا من أهل بدر في هذا القدوم وهذه العودة وأن يكونوا من اهل السبق والمبادرة الى هذا السبق العظيم والطريق المستقيم فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليمكنن لهم دينهم الذين ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا شريطة ان يعبدوا الله حق عبادته مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اخلاصا له واتباعا لرسوله صلى الله عليه وسلم، يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، فيا أهل الاسلام في السودان ألا تريدون خيري الدنيا والآخرة فهما في دين الله الحق، الدين الخاتم دين الاسلام، ألا تريدون أن يغفر الله لكم ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا ويجعل لكم حدائق ذات بهجة ويجعل لكم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ويرزقكم من حيث لا تحتسبون؟! ألا تذكرون يوم الوقوف بين يدي الله يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، يوم لا تظلم نفس شيئا والأمر يومئذ لله الملك العدل، ولا يُجزى الناس إلا ما كانوا يعملون، فهل من مدكر؟!
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وهؤلاء هم الذين هداهم الله وهم أولو الالباب.
فلله الخلق والامر والنهي، فالله لم يخلق الخلق عبثا ولا هملا ولا سدىً بل خلقهم لغاية واحدة وغرض أوحد ألا هو عبادته وعبادته وحده فقط لا شريك له، ولا غيرها البتة، فألزم العباد بعبادته وأمرهم بطاعته معروفاً ونهاهم عن معصيته منكرا، أفلا يعلم العباد لماذا خلقهم ربهم؟ ومن العجب كله نجد الخلق من العباد انصرفوا عن الاشتغال عما خلقوا له وهي العبادة وانشغلوا بما خلق لهم وهي الدنيا، أليس ذلك دليل على مفارقة الطريق وتنكب الجادة وإتباع الهوى وطاعة الشيطان ومعصية الرحمن، وليس بعد الحق إلا الضلال، أفلا يعلم العباد أن الدنيا مطية الآخرة؟ أفلا يعلم العباد أن الحياة الدنيا حياة زائلة؟ ومنتهية؟ وأن الحياة الآخرة باقية وأبدية؟!
ولتعلمُنَّ نبأه بعد حين وستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.
فعلى العباد الالتزام بأصول الدين وثوابت العقيدة في كل شؤون حياتهم فلو كانت أصول الدين الاسلامي مائة أصل وآمن العبد بتسعة وتسعين منها ورد وكفر بأصل واحد فقد رد وكفر بأصول الدين المائة أو كمن رد آية واحدة من كتاب الله القرآن الكريم بل حتى حرفا واحدا فقد رد الكتاب كله، أو كمن رد حديثا صحيحا واحدا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كمن رد السنة كلها، ومن رد الكتاب والسنة فقد كفر بهما ومن كفر بهما فقد خلع دين الاسلام من عنقه وبهذا يخرج من دين الاسلام ومن ملة الاسلام خروجا حتميا ويدخل بعد ذلك دخولا اصيلا في ملة الكفر بعدها على العبد أن يختار أي ملة من ملل الكفر تناسبه وتصادف هواه ويلزمها وبعدها لا يبالي الله به في أي وادٍ هلك، فقد هان الله عليه فهان هو عند الله ومن يهن الله فما له من مكرم.
وقبل الختام نذكر أهل الشأن والسلطان، وهم يعلمون ذلك جيدا، أن ما أنعم الله به من نعم وخيرات وإمكانيات طبيعية وبشرية وغيرها منحها الله بلادنا هذه في باطن الأرض وظاهرها ما يغنينا، فما لدينا يكفينا ويفيض، ولكن التحدي الأكبر هو كيف تنجح الدولة والأمة من ورائها في استغلال هذه الخيرات والإمكانيات وتوظيف هذه النعم وتفجير طاقات العباد لأجل مصلحة البلاد، وقبل كل هذا وذاك ترك الشر والفساد وعبادة رب العباد وأن ندع ونترك منهج التسول والأكل من فتات موائد اللئام وكلهم أعداء، فلهذه البلاد كرامة يجب ألا تُمرَّغ وعزة يجب ألا تُهان ومكانة يجب أن تُصان، فتحدي الدولة الأكبر اليوم سوق العباد إلى رب العباد وسوقهم إلى الإنتاج وتحقيق العزة والكرامة والكفاية وما هذا على الله بعزيز، فقط عليهم أن يتوجهوا إلى الله ويلتزموا شرعه ومنهاجه فلا شرقية ولا غربية ولا أجنبية بل (إسلامية سودانية مية المية) وما أُمِر العباد إلا ليقيموا الدين لله مخلصين حنفاء ولو كره الكافرون فإن الله ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته فما يريد منهم من رزق وما يريد
أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، والحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
ختام البحث:
هنا نقول إن كل ما سبق هو غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير جداً في هذا الشأن، فالعلم الشرعي بأمر الحاكم والحاكمية لا تسعه الكتب والمجلدات وقد كتب في هذا الجانب كل أو أغلب علماء ومشايخ أهل السنة والجماعة لأنهم يدرجون أمر وجوب طاعة ولي الأمر والإذعان له وحرمة الخروج عليه وعصيانه، برَّاً كان أو فاجراً، في كتبهم وكتاباتهم المرتبطة بالعقيدة لأن هذا الأمر من أسس وأساس عقيدة المسلم فهو من أصول الدين وثوابت العقيدة فهو موضوعٌ الإحاطة به وشموله يحتاج إلى كتب ومجلدات ولكني اجتزأت ما قدَّرْتُ أنه علم شرعي ونافع وضروري للعبد المسلم فإن الجهل به يورد العباد موارد الهلاك والضلال فكل هذا من العلم الشرعي وتعلم العلم الشرعي واجب وطلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة، فيجب على العبد أن يتعلم العلم الشرعي حتى يكون على هداية وبصيرة من أمره كله فيعرف ربَّه أولاً ودينه ثانياً والعقيدة وأصول الدين ثالثاً ومن ثم الحلال والحرام والمأمور به والمنهي عنه والمعروف والمنكر حتى يعبد العبد ربه وخالقه ومليكه ومدبره على فهمٍ صحيح ورشدٍ سليم فالله لا يُعبد إلا بما شرع تنزيلاً في كتابه واتباعاً لسنة وهدي نبيه ورسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، فالله لا يُعبَد عبادةً صحيحة إلا بالعلم وعبادة الله بالجهل تكون هباء منثوراً فهذه العبادة لا وزن ولا قيمة لها عند الله عزَّ وجلَّ وتكون كالسراب عندما يصله العبد لن يجده شيئاً ويجد الله عنده فيوفيه حسابه خسراناً مبيناً، فالجهل نقيض العلم وعدوه والجهل لا يكون عذراً لصاحبه عند الله سبحانه وتعالى فالله لا يعذر بالجهل بعد إرسال الرسل وتبليغ الدين والدعوة للعباد وتبيان الحق من الباطل فلله الحمد والمنة فالعلم الشرعي اليوم معلوم ومتاح ومتوافر بين يدي العباد بشتى السبل والوسائل والوسائط فقط مطلوب من العبد المؤمن السعي في طلب هذا العلم ومن سلك طريقاً في طلب العلم سهل الله له به طريقاً إلى الجنة فالله عز وجل يؤيد طالب العلم الشرعي ويعينه عليه وييسره له بإذنه تعالى فإذا أراد العبد المؤمن الدنيا فعليه بالعلم وإذا أراد الآخرة فعليه بالعلم وإذا أردهما معا فعليه بالعلم، فعبادة الله بما شرع وخشيته بما أمر لا تتم إلا بالعلم فإنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ فالشيطان للإنسان عدو مبين ويجب أن يتخذ الإنسان الشيطان عدواً ولكن نجد أن الشيطان وأولياءه هم أعداء هذا العلم المطلوب لكل عبد مؤمن فيحاربونه ويحولون دونه حتى يفشو الجهل وينتشر بين العباد ويكون الناتج تمكُّن الضلال والغواية والفسوق والعصيان، وهنا تتحقق طاعة الشيطان وموالاته ومعصية الرحمن ومخاصمته لذا أقول إن كتابة هذا البحث وكتابه الشامل لبقية موضوعاته والذي يصدر بعده إن شاء الله فهذا البحث وذاك الكتاب أنا أتوقع بل على يقين أن أعداءه سيكونون كثيراً جداً من الخلق وهذه سنة الله في خلقه من لدن رسالة سيدنا نوح عليه السلام أول رسل الله إلى أهل الأرض فما آمن معه إلا قليل وكذا بقية أولي العزم من الرسل سيدنا إبراهيم وعيسى وموسى وخاتمهم محمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين وكل بقية رسل الله وأنبيائه أغلب أممهم كانوا للحق كارهين، فالحق دوماً أهله قلة والباطل دوماً أهله كثر ولا يغرنَّ الناس كثرة أهل الباطل فمصيرهم إلى النار. وعلى العبد المؤمن التمسك بالحق وإن قلَّ أهله أو انعدموا فليعضينّ على جذع شجرة حتى يلقى الله على ذلك الحق يوم الوعد الحق فقليل من عباده الشكور فالباطل الذي يصول ويجول الآن في السودان وكل مكان من الأرض إلى زوال بحتمية الوعد الرباني والله لا يخلف وعده. فيا عبد الله المؤمن عليك باتباع الحق ولزومه فإن أدركت تمكنه وقوته وصولته وجولته في الدنيا فأنت سعيد بذلك في الدنيا وإن لم تدرك هذا في الدنيا فأنت في الآخرة من الفائزين، وهذا وعد رباني كذلك فالجنة وعد الله والنار وعيده. فكل أهل الباطل أولياء الشيطان أتباع الهوى هم من الجهل وضد العلم وهم الخاسرون يومئذٍ بخلاف أهل الحق أولياء الرحمن أتباع الهدى فهم مع العلم وضد الجهل وهم الفائزون يومئذٍ.
ومن هذا يتضح أن أمر العلم الشرعي أمرٌ حتمي ولا بد منه لكل صاحب بصر وبصيرة فيتعلم العلم ثم يعمل به تطبيقاً والتزاماً ثم يدعو إليه ثم يصبر على الأذى في سبيله، أسأل الله أن يجعلني من الصابرين على الأذى في سبيل الدعوة إلى العلم وفي سبيل الله عامةً ويكفيني من هذا أن هذا هو الحق المبين والثابت وما دونه هو الباطل المندحر والزائل وليس بعد الحق إلا الضلال، فأهل الباطل لا وزن لهم عند الله ومن لا وزن له عند الله فلا وزن له عندي ولا عند أهل الحق.
الله سبحانه وتعالى يعلم نية المرء وقصده فاللهم إن كان جهدي وعملي هذا مقصود به وجهك الكريم وخالصاً لك لا شريك لك فيه وفي سبيلك، ونصحاً وإرشاداً لعبادك، وقولاً للحق فالساكت عن الحق شيطان أخرس، وتذكيراً بالعلم، فمن كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة، فاللهم تقبله مني وثقِّل به ميزاني يوم تنصب الموازين الحق، وإن كان عملي هذا غير ذلك فرده عليَّ واجعله هباء منثوراً.
وأعلم أنه سيكثر عليَّ الأذى والعداء وستستهدفني السهام التي ستطيش بإذن الله وحوله وقوته ونصره، ولا يقوم بمثل هذا إلا أصحاب الهوى الذين اتخذوا الهوى إلهاً من دون الله، أفرأيت من اتخذه إلهه هواه فأضله الله على علم عنده وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ومن أصحاب النفوس الأمارة بالسوء والفحشاء والمنكر، ولكن نقول إن الهداية من عند الله عزَّ وجلَّ فإنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين.
ربِّ أوزعني أن أشكر نعتمك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين، واجعلني من عبادك المُخلَصين المتقين، رب لا تجعلني في القوم الظالمين، رب ادخلني مدخل صدق واخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً.
جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، ولله الأمر من قبل ومن بعد ولا ملجأ منه إلا إليه فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فالحول والقوة والحركة والسكون بيد الله العزيز الحكيم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ومن ضمن مواضيع هذا الأمر التي تطرقت إليها في بقية أبواب وفصول الكتاب مثل ماهية العذر بالجهل واعتقاد السلف الصالح في أمر الحكم بغير ما أنزل الله ثم بعض المذاهب الفكرية الكفرية ثم الشورى والديمقراطية وديمقراطية النساء والحرية والعدالة والسلام وأهمية فضيلة الصبر على جور وظلم الحكام المأمور به شرعاً وديناً والمنهي عن ضده، وضرورة الالتزام بالأمر والنهي وأهمية وفضل العلم النافع والمكانة العلية للعلماء الربانيين من أهل السنة والجماعة، وضرورة استرشاد الحاكم بهم وجعلهم أهل مشورة عنده وكذلك عوامل إصلاح المجتمع ومقومات النهوض بالأمة وأسس وأسباب النصر والتمكين، ومن هم الخوارج السبئية اليوم بين ظهراني الأمة ومن هم أنصارهم من أدعياء السلفية الذي يجمعون بين السنة والبدعة ويطعنون في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضوان الله عنهم أجمعين، وغيرها من المواضيع المكملة والمتممة للفكرة الكلية للكتاب، وهي كلها ذات صلة بعضها ببعض وسيخرج منها القارئ أو المطَّلِع بحصيلة جامعة عما هو ضروري له فيما احتوى الكتاب من أبواب وفصول.
ومرجعية كل ذلك هي الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة والأئمة الأعلام هداة الأنام وكذا العلماء الربانيين، السابقون منهم والمعاصرون. وما استرشدت وما استشهدت بغير ذلك من أي قولٍ منسوب لسياسي محترف أو سياسي ناشط أو فيلسوف أو أهل المنطق والجدل أو ليبرالي أو تقدمي أو غيرها من المذاهب الفكرية الأخرى التي يوصف بها بعض العباد، مستعيذاً بالله من كل هذا وغيره مما يخالف الشرع والشريعة وأصول الدين وثوابت العقيدة، ولله الحمد والمنة، هو الهادي إلى سواء السبيل وهو من وراء القصد يهدي من يشاء ويضل من يشاء يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ربِّ زدني علماً وانفعني بما علمتني ونعوذ بك من علم لا ينفع والحمد لله من قبل ومن بعد وصلِّ اللهم وسلم على عبدك ونبيك وخليلك وخاتم أنبيائك محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليماً كثيراً.
ولله الحمد من قبل ومن بعد.