محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..العودة للخرطوم دعوة للفهم الصحيح

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..العودة للخرطوم دعوة للفهم الصحيح
حين تحدثت بالأمس، عن ضرورة التريث في العودة الشاملة إلى الخرطوم، لم أكن أطرح رأياً خيالياً أو أدعو لمصادرة حق الناس في العودة إلى مدينتهم، بل كان حديثي منصباً على ضرورة ألا نُعيد إعمار الخرطوم على نفس المخطط القديم، بنفس المسارات المختنقة، والبنية المتهالكة، والترقيعات المؤقتة التي ظلت تتكرس وتتفاقم على مر العقود، بلا تقدّم حقيقي ولا تأسيس جديد وننتهز فرصة خلو قلب الخرطوم من نشاط الوزارات ومؤسسات الدولة وانتقالها الى بورتسودان كعاصمةإدارية مؤقتة مكنت من إدارة شؤون البلاد .
ولم أتعجب من أن البعض لم يفهم ما كتبت على وجهه الصحيح وهذا أمر طبيعي .. وطبيعي أيضاً حين لا يقرأ البعض بهدوء وتدبر فينفجروا برد فعل غاضب .
وقد تحدثت تحديداً عن قلب الخرطوم ومنطقة الوزارات وثكنات الجيش ومرافق الدولة المختلفة ولم يرد في حديثي شيء
عن بقية العاصمة وأحيائها السكنية رغم انني أؤمن أن لا نعيد الناس بالإغراء والتحريض قبل توفر الحد الأدنى من مقومات الحياة من كهرباء وماء وخدمات صحية أساسية وفرص عمل يعيشون منها .
القضية في جوهرها تتعلق ببنية تحتية منهارة، ومخططات عمرانية عشوائية، وصرف صحي مدفون تحت ركام الإهمال وانهيار كامل لشبكة المياه وتوزيع سكاني ومؤسسي غير متوازن، تشكّل عبر عقود، لا بسبب الحرب وحدها، بل نتيجة غياب الرؤية وسوء التخطيط وتراكم الإهمال.
الدعوة التي طُرحت لا تُعارض عودة من اضطر، ولا تمنع من قرر الرجوع إلى المدينة حيث وجد بيئة ممكنة للتعايش، فهذا أمر مفهوم ومشروع ولا يُلام عليه أحد خاصة من لا خيار له غير العودة، فكلٌّ أعلم بظرفه.
ولعل البعض تسرع في الفهم ولم يتنبه إلى انني ما عنيت سكان الأحياء وإلا لتحدثت عن أم درمان والخرطوم بحري وهي تعادل أضعاف مدينة الخرطوم الضلع الثالث في العاصمة المثلثة .
غير أن ما نراه اليوم من فراغ عمراني ومؤسسي في مركز الخرطوم يمثل فرصة نادرة للدولة، لا ينبغي أن تُهدر. هذا الفراغ يعتبر فرصة للتخطيط والتأسيس وإعادة البناء المدروس في قلب العاصمة، دون أن يُحرّك ذلك عبء العودة الجماعية قبل أوانها، إلا لمن اضطر.
وإننا هنا لا نتحدث عن عدم تشجيع المناطق المستقرة العامرة نسبياً كمدينة أم درمان أو الريف الشمالي لمدينة بحري، او جنوب الخرطوم وإنما عنينا قلب الخرطوم
العاصمة، فإنها تبدأ منها حركة الإصلاح الشامل ثم تنداح .. وحتى هؤلاء فإن الأمانة تدعو للنظر في كيف يعيشون ومن أين يحققون دخلا يلبي متطلبات حياتهم حيث أن دورة الحياة ودولاب الإقتصاد يحتاج الى مقومات لا يدور بدونها كالكهرباء وإعادة تأهيل الصناعة ومرافق الانتاج المختلفة وإعادة تأهيل البنيات التحتية . فكثيرون عادوا إلى الخرطوم لكنهم رجعوا من حيث أتوا الى المناطق التي وجدوا فيها عملا ً داخل وطنهم يعيشون منه .
المقصود ليس العودة في ذاتها، بل العودة إلى ذات النمط القديم: شوارع ضيقة، تصريف مختنق، أبنية متراكمة بلا هوية عمرانية، وتكدس مؤسسي في مساحات غير مناسبة وغير متناسبة مع الوظائف الحديثة للدولة والمجتمع.
فلماذا لا نجعل من هذه اللحظة الفارقة مدخلاً لبناء جديد؟ لماذا نعيد كل شيء كما كان، وكأن شيئاً لم يكن؟
هل ننتظر أن تتراكم الأزمات من جديد حتى نبدأ التفكير في الإصلاح؟
ولعل من المهم هنا تأكيد أن تمويل إعمار الخرطوم – إذا فُتح له الباب المؤسسي الصحيح – ليس مستحيلاً ولا صعباً، بل هو ممكن وسهل ومتاح، بل إن الحرص عليه من قبل المموّلين وشركات البناء العالمية أكبر من حرص طالب التمويل نفسه. شركات كبرى – إقليمية ودولية – تعاني من أزمات بطالة في منظومتها البشرية، ومن تعطّل معداتها الثقيلة، وهي تبحث عن فرص تشغيل طويلة الأمد، مما يجعل نظام التمويل بالبناء والتشغيل
والتحويل (BOT) خياراً جاذباً لها. بل إن بعض الدول الكبرى تدعم شركاتها بمنح وقروض تُوجَّه لدول أخرى، بشرط أن تنفَّذ المشروعات عبر شركاتها الوطنية، فقط لفتح آفاق عمل لها وتفادي شللها الصناعي والتشغيلي، وهذا معروف وموثق في كثير من الحالات.
لكن هذا كله مشروط بشيء أساسي لا بد منه: وهو أن يُتّخذ القرار بفتح بابي تحرير الاقتصاد الشامل وضبط أداء الدولة بنظام رقمي متكامل، بالتوازي مع وضع خطة عاجلة بخارطة مركزية جديدة للخرطوم، ولا سيما قلبها حيث الوزارات والمؤسسات السيادية والثكنات العسكرية. فبدون ذلك، لا بيئة استثمار، ولا ثقة، ولا وضوح للرؤية.
نحن لا نمنع الناس من الحياة، بل نطمح لحياة أفضل، أكثر أمناً وتنظيماً، وأكثر استدامة وكرامة.
العودة التلقائية إلى الخرطوم كما كانت، دون مراجعة شاملة وتخطيط رشيد، هي ما نحتاج أن نتوقف عنده، لا العودة بوصفها فعلاً إنسانياً لمن يضطر أو لا يجد لغير ذلك سبيلاً.
هذا ما أردت قوله، بكل ودّ واحترام، وهو رأي مطروحٌ في ساحة النقاش العام، لا ساحة التخاصم أو المصادرة او المزايدات بألفاظ ضخمة خالية من المحتوي والتلويح بالانفعال والتهديد لصاحب رأي مخالف دون احترام لأدب الإختلاف وحسن المخاطبة مع الرأي الآخر .
وأختم مؤكدًا: هذه رؤيتي المتكاملة، لا تنجح إلا إذا طُبّقت كحزمة واحدة، بشكل متوازٍ يجمع بين تحرير الاقتصاد تحريرًا شاملًا، ورقمنة الدولة رقمنة متكاملة، ووضع خارطة مركزية عاجلة لمستقبل الخرطوم، وخاصة مركزها الذي يحوي الوزارات والثكنات والمؤسسات. أما إن لم تكن هناك نية حقيقية لأخذ هذا العلاج كوحدة واحدة بتنفيذ عاجل، فلا ضير – عندها – من عودة الناس بأي وسيلة، ولو بالتشجيع والإغراء، ودغدغة عواطف الناس بالحنين الى بيوتهم وتجاهل أن دعوتنا لا علاقة لها بالأفراد واختياراتهم .
هذان طريقان طريق صعب مقدور عليه آن صح العزم يدعو لتصحيح وضع مدينة الخرطوم وبذل جهد جبار لمعالجة مشكلاتها .. وطريق سهل لا جهد فيه (ياناس ارجعوا الخرطوم) دون أي جهد لتصحيح الأوضاع فيها فالعيش في بيئة الخرطوم القديمة – المتخلفة أو حتى الأسوأ – يبقى أفضل من أن تبقى بلادنا فراغات بلا عمران ولا حياة ضمن النهج الذي يدعو إليه جماعة عودوا كيفما اتفق طالما لن ينفذ الحل الشامل المتكامل الذي ندعو إليه كحزمة واحدة عاجلة .
محمد عثمان الشيخ النبوي