محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..حتمية جذب الصين (1 من 2)… طريق السودان إلى القوة والنهضة

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..حتمية جذب الصين (1 من 2)… طريق السودان إلى القوة والنهضة
إنّ الحديث عن جذب الصين للاستثمار في السودان لا يمكن أن يُطرح بمعزلٍ عن التمهيد الطبيعي الذي يسبق كل نهضةٍ حقيقية، وهو إصلاح البيئة العامة الكلية، إذ لا تنجح الشراكات العظمى في مناخٍ مختنقٍ بالقيود ولا في اقتصادٍ مغلقٍ ومشوَّهٍ ومفتّت الأنظمة. فقبل أن يفكّر السودان في إغراء الصين أو غيرها من القوى الكبرى بالدخول في مشاريعه، عليه أن يفتح أبواب الإصلاح الجذري بتحريرٍ اقتصاديٍّ شاملٍ يرفع القيود عن العمل والاستثمار والتجارة وسعر الصرف، وأن يقرن هذا التحرير بإرساء نظام حوكمةٍ رشيدٍ ورقمنةٍ متكاملةٍ تجعل الدولة كيانًا حيًّا شفافًا لا
يحتكر المعلومة ولا يُعيق القرار. فالتحرير بلا حوكمةٍ فوضى، والحوكمة بلا رقمنةٍ عجز، والرقمنة بلا تحريرٍ شكلٌ بلا مضمون. وبغير هذا المثلث المتكامل لا يُمكن للسودان أن يقدّم نفسه للصين ولا لغيرها كشريكٍ جديرٍ بالثقة والجدوى.
ولعلّ من أهمّ أسباب عزلة السودان واستضعافه، بل واستهدافه، امتلاكه مواردَ طبيعيةً وثرواتٍ متنوعةً هائلةً ظلّ جامدًا عن استثمار حتى القليل منها، وعجزت القوى العظمى عن الإفادة منها أو التنافس عليها بسبب السياسات الداخلية المغلقة والمتخلفة والطاردة المنفّرة. فحين تُغلق دولةٌ أبوابها دون الاستثمار وتمنع الشراكة وتكبل الإنتاج بالبيروقراطية والعقبات، فإنها لا تحرم نفسها فحسب، بل تحرم العالم أيضًا من فرصٍ هائلةٍ للتبادل والمصالح المشتركة، فيتحوّل من كان يمكن أن يكون حليفًا اقتصاديًا
نافعًا إلى خصمٍ يشارك في محاولات إضعافها أو التخلص ممن يمنعه من الإفادة من تلك السوانح. وهكذا، يصبح السودان، بما يملكه من موقعٍ وثرواتٍ، مصدر قلقٍ ومحلّ استهدافٍ من دولٍ أضعفَ حظًّا منه في الإمكانات لكنها أكثرُ انفتاحًا وذكاءً في استثمار فرصها، فتتقدم عليه وهو الأولى بأن يكون الحليفَ والشريكَ والمركزَ الذي تتنافس عليه القوى لا الذي تتنازعه الأطماع.
وإذا كانت الرقمنة هي المفتاح الذي يربط بين السيادة والتنمية، فإنّ الصين نفسها هي النموذج الأكبر الذي يُثبت أن الانتقال إلى الاقتصاد الرقمي هو أعظم أدوات النهضة الحديثة. فالتجربة الصينية قامت على فكّ القيود، وإطلاق السوق، وربط الدولة بالشبكة الرقمية الكاملة التي تدير المال والتجارة والإنتاج والمجتمع من منصةٍ واحدة. وبالمثل، فإنّ السودان، وهو يشرع في إصلاح بيئته، يمكنه أن يعتمد في جانبٍ معتبرٍ من بناء أدوات رقمنته على الصين نفسها، سواء في البنية التحتية السحابية أو شبكات الألياف الضوئية أو أنظمة الدفع والتحصيل الإلكتروني، مع حفظ سيادته الرقمية ووضع معايير أمانٍ صارمةٍ وشفافةٍ تشرف عليها الدولة، لأنّ الرقمنة في جوهرها ليست ترفًا تقنيًا بل وسيلةُ ضبطٍ شاملٍ للإدارة والمعلومات والموارد.
وعندما يُصبح السودان بيئةً مُهيأةً بالتحرير والحوكمة والرقمنة، يصبح الدخول الصيني ليس خيارًا تكميليًا بل ضرورةً حتميةً تفرضها موازين الواقع والمصلحة. فالصين تمتلك اليوم مزيجًا نادرًا من رأس المال والإنتاج والتكنولوجيا، وتبحث عن مواردٍ وأسواقٍ وممراتٍ آمنةٍ لتوسيع نطاقها الاستراتيجي. والسودان بدوره يملك ما تحتاج إليه الصين بشدّةٍ وإلحاحٍ لتأمين مستقبلها الاقتصادي والغذائي والطاقوي: أرضًا خصبةً بلا حدود، ومياهًا وافرة، وثرواتٍ معدنيةً هائلة، وموقعًا جغرافيًا يجعل منه بوابةً بين قلب إفريقيا وشرقها وبين البحر الأحمر والعالم. التقاء هذين العنصرين – حاجة الصين الملحّة ووفرة السودان الاستثنائية – يجعل من التحالف السوداني الصيني الطبيعي أفقًا للتكامل لا مجرد استثمارٍ مالي.
إنّ الصين يمكن أن تدخل السودان من أبوابٍ عديدةٍ ومتكاملةٍ؛ في الزراعة والصناعات الغذائية، وفي التعدين والتحويل المعدني، وفي البنية التحتية والسكك الحديدية والموانئ والطاقة، وفي الرقمنة والمدفوعات الإلكترونية ومراكز البيانات، بل وحتى في مشروعات الهيدروجين الأخضر والأمونيا التي تتوافق مع سعيها العالمي لخفض الانبعاثات. وبإمكان السودان أن يُقدّم للصين ما لا يجده في غيره من الدول: امتيازاتٍ سياديةً على البحر الأحمر، وأراضٍ لإقامة مناطق صناعيةٍ ولوجستيةٍ خاصةٍ بنظام البناء والتشغيل والنقل (BOT)، واتفاقات شراءٍ مسبقةٍ للمنتجات الزراعية والحيوانية والمعدنية، مع نافذةٍ رقميةٍ موحّدةٍ تُنجز الترخيص في زمنٍ معلومٍ وتُتيح التتبع الشفاف للعقود والأداء.
غير أن الإغراء لا يكتمل بالعروض وحدها، بل بالثقة في الاستقرار والوضوح والجدية. والصين دولةٌ براغماتيةٌ تحسب خطواتها بدقة، ولن تغامر برؤوس أموالها في بيئةٍ تفتقر إلى التثبيت القانوني أو التحكيم العادل أو الضمانات المؤسسية. ومن هنا وجب أن يصدر السودان قانونًا مُحدثًا للمناطق الاقتصادية الخاصة، وقانونًا جديدًا للشراكات العامة والخاصة، وأن يُنشئ مكتبًا موحّدًا للعلاقات مع الصين تحت رئاسة الوزراء ليُدير التفاوض والعقود وفق نماذجٍ موحدةٍ شفافةٍ تخضع للرقابة والمساءلة. فالشريك الصيني لا يريد شريكًا ضعيفًا، بل دولةً تعرف ماذا تريد وتضع قواعدها بصرامةٍ وعدل.
إنّ المكاسب المتوقعة من هذا المسار هائلةٌ: تدفّق استثماراتٍ مباشرةٍ بمليارات الدولارات، ونقلٌ للتقنيات والخبرات، وبناءُ موانئ وطرقٍ وسككٍ ومصانعَ حديثةٍ تُعيد السودان إلى خريطة الإنتاج الإقليمي والدولي. وستنخفض كلفة الواردات وتزداد الصادرات وتُخلق مئات الآلاف من فرص العمل، وتتحول الثروات الكامنة إلى قيمةٍ مضافةٍ داخليةٍ بدل تصديرها خامًا. ولأول مرةٍ يمكن للسودان أن يمتلك قاعدةً صناعيةً رقميةً تُدار بالبيانات لا بالعشوائية، وتُراقب بالمنصات لا بالمكاتب الورقية، ليصبح الإنتاج منظمًا، والمال مراقَبًا، والفساد محدودًا، والتخطيط دقيقًا.
وليس في ذلك فحسب، فهذه التحسينات البنيوية والانتقال المنتج نحو اقتصادٍ منظمٍ ومُحوَّكٍ بالبيانات لا تنتج طفرةً اقتصادية فحسب، بل تعيد صياغة قدرات الدولة الشاملة. فالبنية التحتية الحديثة والطاقة المستقرة والقاعدة الصناعية الوطنية والقدرة على إنتاج احتياجات الدفاع محليًا ستُعزِّز قوة السودان العسكرية ونفوذه الإقليمي، وتمكّنه من ردع العدو، وترسيخ مناصرة ومعاضدة الحلفاء حفاظًا على مصالحهم ومصالحه، فيغدو السودان بقوته الاقتصادية والعسكرية معًا جزءًا فاعلًا في معادلة الأمن الإقليمي لا ساحةً لتجاذب القوى عليها.
كما أن دخول الصين إلى الساحة السودانية لا يمنح السودان دفعةً اقتصاديةً فحسب، بل يربط مصالح بكين الحيوية بمصالح الخرطوم، فيجعل من أمن السودان واستقراره مصلحةً صينيةً مباشرة. وحين تتداخل المصالح على هذا النحو، يتحول السودان من دولةٍ تبحث عن حمايةٍ إلى دولةٍ تُحمى تلقائيًا بحكم المصالح الدولية المرتبطة بها، فتُضاف إلى قوته الذاتية قوةُ الردع المعنوي والسياسي التي تملكها الصين بثقلها العالمي وقدراتها الدفاعية والتكنولوجية الهائلة. وبهذا تتعزز قدرات السودان العسكرية بالمعرفة والتقنيات والخبرة المتنامية التي تملكها الصين، فيكون قادرًا على حماية نفسه وحلفائه معًا.
ومن ثمار هذه الشراكة كذلك أنها لا تفتح أبواب التعاون مع الصين وحدها، بل تُحرّك موازين العلاقات الدولية كلها تجاه السودان. فحين ترتبط مصالح الصين — وهي القوة الاقتصادية الصاعدة — بأمن السودان واستقراره، يندفع الآخرون، حتى من خصوم اليوم، إلى طرق أبوابه لا حبًّا فيه بل اضطرارًا وجبرًا، حتى لا تفوتهم المصالح التي أدركها غيرهم مبكرًا. وهنا تُمارس الدولة ذكاءها في ترتيب كروت الضغط والإغراء، فتوازن بين القوى وتستثمر تنافسها بما يدفع عنها الضرر ويجلب إليها أقصى النفع، لتصبح محورًا لا تابعًا، ومركز جذبٍ لا ساحة نزاع.
غير أن الطريق إلى ذلك يمرّ بالوعي بأنّ التحرير والرقمنة ليسا ضدّ الدولة بل في صالحها؛ فالدولة التي تفتح السوق وتُحكِم الرقابة الرقمية تُصبح أقوى، لا أضعف، لأنها تمتلك قاعدة بياناتٍ شاملةً ووسائلَ تحصيلٍ فوريةً ومؤشراتٍ لحظيةً عن الأداء الاقتصادي والمالي. وعندما تُدار الدولة بهذه العقلية، فإنّ الشراكة مع الصين أو غيرها لا تُخيفها، بل تُثريها، لأنها شراكة بين طرفين متكافئين يعرف كلٌ منهما قدره ومصلحته.
إنّ السودان يقف اليوم أمام مفترق طرقٍ تاريخيٍّ حاسم؛ فإما أن يبقى حبيس الجمود والخوف من الانفتاح، فيتراجع ويُستنزف، وإما أن يتحرر تحررًا شاملاً يُعيد ترتيب أولوياته ويُغري العالم – وفي مقدّمته الصين – بالدخول في مشروع نهضته الجديدة. وما كان بالأمس حلمًا يمكن اليوم أن يصبح واقعًا إذا امتلكت القيادة الشجاعةَ لإطلاق الإصلاح الكامل، والجرأةَ لاستدعاء الصين كشريكٍ في البناء لا كبديلٍ للقرار، والعقلَ الذي يُوازن بين الانفتاح والحكمة، بين المصلحة والسيادة، بين الطموح والمسؤولية. فالسودان إن بدأ اليوم إصلاحه الكامل وجذب شراكته الكبرى مع الصين، فلن يبني اقتصاده فحسب، بل سيعيد بناء مكانته وهيبته وقدرته على حماية مصالحه وصناعة مستقبله.





