
“لاجئون للبيع أمام المفوضية: سوق سوداء، فوضى، وصمت رسمي”
ندى الحاج | تحقيق خاص لـ(العهد أونلاين )
بين مطرقة الحرب في السودان وسندان اللجوء القسري، وجد آلاف السودانيين أنفسهم مضطرين للهروب من أهوال الوطن بحثًا عن مأوى آمن في أرض جديدة. قصدوا القاهرة، وتحديدًا مقر المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، محملين بالوجع والأمل،
علّهم يجدون من ينصفهم. لكن الواقع كان أقسى من كل التوقعات: باحة المفوضية تحوّلت إلى سوق سوداء، يتحكم فيها المتفلتون، وتُباع فيها “فرص اللجوء” لمن يملك المال، فيما يُهدر كرامة الضعفاء تحت مرأى ومسمع الجميع… بمن فيهم الأمن.
وجهة ضائعة وصفوف لا تنتهي
منذ اللحظة الأولى لوصولهم، يواجه طالبو اللجوء حيرة قاتلة: إلى أين يذهبون؟ من يدلهم على الطريق؟
صفوف طويلة أشبه بالمليونيات، يقف فيها اللاجئون لساعات وأيام دون فهم للإجراءات، وسط انعدام تام لوسائل الاستعلام أو الإرشاد. فوضى عارمة وتدافع غير مبرر يزيد من معاناة المنتظرين، ويخلق بيئة مثالية للسرقات والاعتداءات.
الأدهى من ذلك، أن هذه الأحداث تقع يوميًا أمام أعين رجال الأمن، الذين يكتفون بالمراقبة، وكأن دورهم ينحصر في حماية المبنى فقط، لا الأرواح والحقوق.
اشترِ راحتك… أو تخلَّ عنها
في باحة الانتظار، لم تعد المسألة مجرد تنظيم صفوف، بل أصبحت تجارة سوداء كاملة الأركان. مجموعات من المتفلتين تفرض سيطرتها على أماكن الانتظار، وتبيعها لاحقًا بمبالغ تتراوح بين 200 و500 جنيه مصري، حسب “سعر السوق” وحالة الضحية.
“ادفع وادخل، أو انتظر لأيام وربما تغادر خائب الأمل”… هذا هو منطق السوق المفتوح في ساحة المفوضية، حيث أصبح اللاجئ سلعة، ومعاناته فرصة للربح لدى بعض الجشعين.
شهادات من قلب المعاناة
تقول اللاجئة “خ” لـ(العهد أونلاين ):
“وصلتني رسالة من المفوضية بموعد مقابلتي. حضرت في الوقت المحدد، لكني ظللت على البوابة 3 أيام متتالية. بسبب وضعي الصحي، لم أستطع مجاراة التدافع. سألت أحد أفراد الأمن، لكنه تجاهلني تمامًا. لا أملك المال لشراء خانة، وعدت خائبة للمرة الثالثة على التوالي.”
أما العم محمد، الرجل المسن القادم من السودان بعد أن تعرض للتعذيب والسرقة، فأخبرنا:
“في أول يوم لي في القاهرة، جئت للمفوضية ومعي أوراقي وهاتفي وبعض المال، لكنني تعرضت للسرقة. عدت إلى مسكني فارغ اليدين، وكأن الحرب تلاحقني حتى هنا.”
شاب ثلاثيني، يقيم بجوار المفوضية، قال بشيء من السخرية:
“أحضر يوميًا لباحة المفوضية. أتناول قهوتي وأستمع لقصص اللاجئين. الأمر أصبح عاديًا. رأيت كل شيء هنا: سرقات، بيع مخدرات، تحرش، حتى اختفاء أطفال. العصابات تعمل أمام الكل، ولا أحد يتحرك.”
شابة عشرينية كانت أكثر غضبًا، حين صرخت قائلة:
“سُرقت حقيبتي أمام الجميع، ولم يتدخل أحد. هناك تحرش يومي بالفتيات، ولا أحد يجرؤ على التصدي للجناة. نحن نعيش حربًا نفسية هنا!”
فوضى بتواطؤ أم تقصير؟
عدد من الشهود أكدوا لـ(العهد) أن هناك تعاونًا خفيًا بين بعض العصابات السودانية والمصرية التي تتقاسم النفوذ في باحة المفوضية. الغريب أن هذه العصابات تمارس حياتها علنًا، تقيم هناك، وتضرب بالقوانين عرض الحائط، وكأنها محمية.
في ظل كل هذا، تلتزم المفوضية الصمت، ويبدو الأمن منشغلاً بأشياء أخرى، بينما تنهار صورة اللاجئ السوداني تحت أقدام المافيات.
أسئلة تنتظر الإجابة
- لماذا يتم التعامل مع هذه الانتهاكات بالصمت أو التعتيم؟
- ما هو دور المفوضية تجاه هذه الفوضى المنظمة؟
- لماذا لا تتحرك الشرطة لإزالة هذه العصابات؟
- ما دور الأمن المنتشر في المكان إن لم يكن لحماية الضعفاء؟
- وأين هي السفارة السودانية، التي اختارت الغياب بدل الوقوف إلى جانب شعبها في أحلك ظروفه؟
(العهد أونلاين ) تدق ناقوس الخطر، وتضع هذا التحقيق أمام الجهات المعنية: المفوضية السامية، الأمن المصري، والسفارة السودانية.
ما يحدث في ساحة الانتظار لا يمثل فقط مأساة إنسانية، بل كارثة أخلاقية وقانونية يجب وقفها فورًا.
اللاجئ السوداني لا يستحق هذا الانكسار المزدوج، لا من وطنه ولا من المجتمع الدولي.
فهل يسمع أحد؟