د. عبدالفتاح سليمان يكتب : في حضرة هشام عطا الله ( المبتسمون يرحلون باكرا )
د. عبدالفتاح سليمان يكتب : في حضرة هشام عطا الله ( المبتسمون يرحلون باكرا )
دمعة سقطت من قلبي حين نعى الناعي هشام باغته الموت في ليلة يضمر فيها القمر .
الموت يخطف من سفينتنا أجمل روح وأطيب نفس
أرأيت رجلا
توارى ذكره بين الأنام
لن يجود الزمان بمثله
شهما شريفا طيفه أشجان .
كان ثالث ثلاثة عرفتهم من هذه الدفعة لأول مرة حين التقينا بمبنى الوزارة القديم على شارع النيل قبيل منتصف عام 98 عند أولى عتبات الدخول إلى وزارة العدل ، ومن يومها لم نفترق كنا نلتقي دائما كفاحا أو وصلا حتى قبيل رحيله بأيام .
وبزوال شمس أمس الأول ينضم إلى قافلة سبقت إلى ربها ترجو ثوابه وتدنو نعيمه حيث لا حسد ولا بغضاء ولا كشوفات إزالة . ذهب إلى حياة باقية خاليا من وسخ الدنيا الزائل إلا من محبة الناس . لم يخرج من الدنيا خاسرا بل كان محملا بدعوات تمطر كالغيث على روحه الطاهرة.
برحيله ينضم إلى كوكبة سبقت من هذه الدفعة عصام عبدالحليم ، بادى ، صبري عبدالله الأحيمر . جلال جماع دورت ، عبدالله أحمد عبدالله ابوسن ،والكريمة الرحيمة انصاف زيادة والرهيف الخفيف الضاحك البسام سامي حسن شريف.
وبرحيلهم انفرط عقد نظمناه قبل ست وعشرين سنة وتناثرت حباته.
انفرط العقد وياحسنه
وحبذا الجيد وماقلدا
لو أن شيئا زائلا حسنه خلدا ( جبران) .
دفعة كانت تتقوى ببعضها وتتماسك في الأزمات تجمعها الشدائد وتقويها العزائم .
دفعة كان شعارها ( لن يصيب المجد كف واحد
نبلغ المجد إذا ضمت صفوف ).
لكن هشام كان (غير) كان دائما ماتجده إلى جوار إخوانه في الرخاء وفي الشدة والعسر ، مع آخرين نمسك عن ذكرهم مخافة ألا نقصم ظهرهم ومحبة بالدعاء لهم بأن يجعلهم ممن طال عمرهم وحسن عملهم.
كان مغرما بالصمت كالذين قيل في حقهم ( المغرمون بالصمت نصف أحاديثهم في عيونهم ). تجده صامتا في حضرة الغريب ممن لا يعرف ، لكنه كثير المرح بادئ الانبساط والحيوية بين المقربين إلى نفسه يمازحهم ويضاحكهم حتى يكاد أن يستلقى على قفاه كان يضاحك
الناس وقلبه كسير ، ويواسي المرضى وجسمه عليل . وبين الصمت والبوح تبقى كلماته أسيرة في حنايا قلبه المتعب فذهب بنصف رسائله التي لم يقرأها أحد ؛ ولو كنا قرأناها لامتثلنا طبعه والتزمنا صمته ، فلربما نجونا كما سعى واعتبرنا كما اعتبر لكنه رحل بين الحزن الراكع والموت الواقف .
كان حريصا على صيانة المال العام وحمايته مترافعا أمام المحاكم حتى ليخيل لمن يراه أنه سيورث من خراج ماجمع ، ومن حصاد ما استرد . وحسبه من ذلك كله الجهد والنصب والتعب أداء للواجب وتحملا للمسؤولية ومخافة لله وحبا في الوطن. ويكفيه شرفا شهادة المراجع العام لجمهورية السودان الذي تأثر لفقده كما يفقد الولد.
وكما يقولون أن من يولد في مدينة محاصرة تولد معه رغبة جامحة في الانطلاق لكن هشام لم يغادر داره أبدا بل ظل صابرا محتسبا حتى غالبه المرض فخرج مستشفيا مودعا داره ووطنه مشفقا ومرددا مع المقالح
أخشى عليك من الغريب
ودونما سبب أخاف عليك
منك ومن صراعات الأمارة .
ولم يكن يدري أنها آخر الخطوات وخاتمة المسير .
رحل في دار غير داره ، وهكذا أصحاب البلاء إنهم يبتلون حتى يسيروا على الأرض وليس عليهم ذنب ويرحلون من الدنيا خفافا كما جاءوا .
جسدي يشيخ ومثله لغتي وصوتي
ذهب الذين أحبهم وفقدت أسئلتي ووقتي
أنا سائر بين القبور
أفر من صمتي لصمتي .
كان ينادي الناس للصلاة بالأذان ونسأل الله أن يعمه بالفضل ضمن زمرة المنادين إلى الفلاح الذين قال فيهم رسولنا الكريم ( المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة ). ( رواه مسلم ).
أطول الناس اعناقا فسره بعض أهل العلم بأنهم أكثرهم تطلعا وتشوقا إلى الثواب عند الله تعالى .ومنهم من قال ( أطولهم أعناقا ) ؛ لأن الناس يعرقون في أرض المحشر فمنهم من يلجمه العرق إلجاما ، أما المؤذنون فلا يحصل لهم مثل هذا.
وأطول الناس أعناقا عند بعض أهل العلم أى أكثرهم إتباعا ، ومن قال لشرف مكانتهم ورفيع منزلتهم . فنسأل الله أن يكون هشام ممن علا ذكره عند الله تعالى . وأن يجعل البركة في ذريته وأن يرزقهم بره .
يرحل هشام في أيام نتنسم فيها عبير مولد سيد الخلق نبى الرحمة سيد ولد آدم يلفنا الحزن على فراقه ولكننا نجد السلوى في بشارات نبى الرحمة الذي حين أراد أن يودع أصحابه خشى أن تذوب أفئدتهم وتسيل مآقيهم فقال تورية ( لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا ).
هذه التورية وعاها معاذ فبكى .عن معاذ بن جبل قال لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن عاملا وقاضيا – خرج معه صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته ومعاذ راكب والرسول يوصيه ( يامعاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامى هذا ، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا
وبقبري أيضا ) ، حيث أخفى عنه الأمر ب (عسى ) إشفاقا عليه. وكلنا نعرف محبة معاذ عند رسول الله فبكى معاذ جشعا ( أى جزعا ) وفزعا مما سمع مخافة ألا يلتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه نحو المدينة عن معاذ لئلا
يرى بكائه ويشتد الحزن في ذلك الموقف المهيب ( أى أنك تفارقني وتفارق المدينة وتتركها ولا تراني . وقال :- إن أولى الناس بي أى بشفاعتي (المتقون من كانوا وحيث كانوا ).
قال الطيبي لعل الالتفات كان تسلية لمعاذ بعدما نعى نفسه إليه .
ياغافلا والموت يطلبه
هل فكرت فيما تمضي الساعات
أقبل على الرحمن واطلب عفوه
فعسى المهيمن يغفر الزلات.
ولانقول إلا مايرضي الله ( إنا لله وإنا إليه راجعون).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم .