جدية عثمان تكتب : مسافات… ما بين المغرب والعشاء في قبو الحرم المكي الشريف

جدية عثمان تكتب : مسافات… ما بين المغرب والعشاء في قبو الحرم المكي الشريف
في آخر يوم من رمضان الماضي، أكرمني الله بالإفطار وصلاة المغرب في صحن الكعبة المشرفة، حيث نَعِمتُ باعتكاف العشر الأواخر في أقدس بقاع الأرض. كنتُ أتنفس روحانية المكان، وأشعر وكأنني أسبح في بحر من الطمأنينة، وقد مُنِحت فرصة العبادة قرب بيت الله العتيق.
بعد الصلاة، تحرّك الجمع استجابةً لتوجيهات رجال الأمن لتنظيف المكان، فسِرتُ مع الحشود حتى وجدتُ نفسي في قبو الحرم لأول مرة. هناك، شعرتُ وكأنني في عالم آخر،
معزول عن صخب الدنيا، حيث تلتقي الأرواح وتصفو القلوب. جلستُ في انتظار صلاة العشاء، أراقب وجوهًا جاءت من أقاصي الأرض وأدناها، كلٌّ يحمل في قلبه قصة، لكن الجميع تجمعهم نية واحدة: القرب من الله.
وسط هذا المشهد الإيماني المهيب، شدّني تفاعل المصليات من جنسيات مختلفة، حيث تنشأ صداقات جميلة، ليس بحكم اللغة أو العرق، بل بروح الإيمان الخالصة. جلستُ بين مُسنّاتٍ بدت على وجوههن ملامح السكينة التي
تمنحها السنين الممتلئة بالذكر والطاعة. سألتني إحداهن بحنو: “من أي بلد أنتِ؟” فابتسمتُ وأجبتها: “من بلد قريب من قلب هذا المكان… من السودان.” وهنا، ابتسمتْ ودعتْ للسودان وأهله. أما أنا، فلم يكن يهمني من أين جئت، فقد كنتُ أشعر وكأنني أنتمي إلى هذا المكان منذ الأزل.
تحدثنا عن رحلتي إلى الحرم، عن لحظة ملامستي للكعبة المشرفة رغم الزحام، عن الدموع التي انسابت دون وعي حين وقفتُ أمام مقام إبراهيم، وعن تلك الرجفة التي هزّت
روحي عندما رفعتُ يديَّ بالدعاء بين الركن والمقام. أخبرتني عن حياتها، وعن أبنائها الذين تفرّقوا في البلاد، لكنها وجدت في بيت الله أنسًا وسكينة لم تجدهما في أي مكان آخر.
في هذا القبو المبارك، كان للوقت طعم مختلف، وكأن الدقائق تنساب برفق بين الأذكار والتسبيحات، تغسل القلب من أدران الدنيا وتملأه بنور الطمأنينة. شعرتُ أن هذا اللقاء
لم يكن مجرد صدفة، بل رسالة من الله بأن المحبة في سبيله لا تعرف حدودًا، وأن الروح تُبعث من جديد حين تسجد في أقدس مكان على وجه الأرض.
حين حان وقت العشاء، اصطففنا جنبًا إلى جنب، كأننا نعرف بعضنا منذ زمن بعيد، قلوبنا متجهة نحو قبلة واحدة، وأرواحنا تردد مع الإمام: “اهدنا الصراط المستقيم.” وحين انتهت الصلاة، تبادلنا نظرات الامتنان
وابتسامات هادئة، ثم تفرّقنا، لكن تلك اللحظات ظلت محفورة في روحي كنقشٍ على حجر الإيمان، ذكرى نقية من رمضان المبارك، وسياحة إيمانية لن أنساها ما حييت.
أسأل الله أن يرزقني الاعتكاف مرة أخرى هذا العام…