إشتياق الكناني تكتب : هذا وطني حين فقد صوته

إشتياق الكناني تكتب : هذا وطني حين فقد صوته
بعد الساعة السابعة مساءً، قبل عامين من الآن، أدركنا في بيتنا أن البلاد انطلقت تماماً في الجنون السياسي والعسكري. كان صوت الرصاص أقرب من أن يُحتمل،
والمدفعية تعلن بداية النفق الذي ابتلع البلاد. في بيتٍ متاخم لجسري السلاح الطبي والفتيحاب، كنا ننام على الأرض ونردد: “ستنجلي.. مجرد خلاف بسيط سيُحل بعقلاء بلادي”. لكن لم يأتِ عقل، ولم يأتِ سلام.
الغريب أن تلك الليلة لم تكن عادية، بل كانت البلاد تستعد لاستقبال العيد. كان الناس يشترون ملابس الأطفال، يحضّرون المعمول، ويخططون لصلاة العيد وأول زيارات الأقارب. لم يكن في خاطر أحد أن يشتري ما يكفي للفرار، ولا أن يحضّر نفسه للموت.
كان الأطفال ينتظرون تكبيرات العيد، لا صرخات الخوف. كانت الأحلام معلّقة على صباح فرِح، فاستيقظنا على نهارٍ مملوء بالدخان.
كيف تغيّر الحال في ليلها وضحاها؟ كيف تحوّلت فرحة العيد إلى مأتمٍ جماعي؟
كل فرد من أسرتي وجد نفسه في اتجاه، والهاتف يوشك أن يخذلنا، والرصاص لا يفرّق بين جندي ومدني.
بعد عامين، لا يزال السؤال ذاته يطرق الرأس بإلحاح: من أشعل هذه النار، ومن يستفيد؟
أين أنتم يا ساسة البلد من دمائنا؟ من فقدنا؟
أليست هذه السلطة التي تتقاتلون عليها، كانت بالأمس قسمةً بينكم؟
أليست هذه الحرب ثمرة سكوتكم وتواطئكم وعجزكم؟
لم يكن المدنيون أكثر رحمة، ولا العسكر أقل بطشاً. كلٌّ اختزل الوطن في معسكره، واحتفى بالخراب كلما اقترب من بوابته. كأن الانتصار بات مرهوناً بعدد الجثث، لا بعدد الناجين.
عامان مرا، والدم لا يزال يسيل، والخرطوم لا تزال رهينة الأشباح والدخان. عامان من التيه، والشتات، والانكسارات المتتالية. منازل مهدّمة، أحلام معلّقة، ومدن لم تعد كما كانت.
ومع ذلك، لا تزال ثمة أسئلة لا تموت:
أين الصوت الذي يوقف هذه الحرب؟
من سيزرع الأمل في أرض تشرب الدم؟
عامان مرا، وما زلنا نقول لأنفسنا: *سيأتي عقلاء بلادي*.
لكننا نعرف في أعماقنا أن العقل وحده لا يكفي، بل الشجاعة.
شجاعة الاعتراف، والمصالحة، والتنازل لأجل من تبقى.